لا أدري كيف جاءت هذه التسمية لتصبح وسما لجيل الخمسينات والستينات، ومن جاء بعدها، إلى قبيل تقريبا جيل حرب الخليج الثانية، وحتى اليوم لم يتم تحديده كمصطلح يؤرخ لحياة هذه الأجيال سوى أنه جيل لاقى من عنت الحياة وصلفها الشيء الكثير، بعضهم يتحسر على تلك الأيام لطيب أهلها ووداعتهم وتلقائيتهم وتقاربهم في كل شيء، ولكن بعض كبار ذلك الجيل وما بعده من أجيال لا يود أن يعود إليها مختصرا رأيه فيها بقوله «الله لا يعيدها من أيام»، وهنا يجب أن نفرق بين جيل التعب والشقاء وجيل الطفرة، أكاد أجزم أن الأخيرين هما من اخترع مصطلح «جيل الطيبين»، لأن حياتهما ليست كحياة آبائهم بعدما انفتحت لهما الدنيا على مصراعيها بكل ألوانها وأشكالها ومذاقاتها، وقد مسّهم النعيم بعد الجحيم الذي أسغب حياة آبائهم، متيحة لهم (أعني الطفرة) أبوابا مختلفة للثراء قفز منها البعض قفزة بهلوانية، قد تنسب إلى الصدفة أو الحظ أو القدر ليصبحوا محدثي نعمة ويسكنوا البيوت الفارهة ويستدلوا على بوابات المطارات في ترحال لا يهدأ، كل الناس بلا استثناء أفادوا منها بحسب متطلباتهم، حتى تلاشت كثير من العادات الطيبة وافتقدت الوداعة التي كانت تساكنهم، وفقدوا معها حميميتهم، لذلك عندما أرادوا أن يعبروا عن حسرتهم على تلك الأيام بعدما فقدوا كثيرا من امتيازات الطفرة التي شاخت بين أيدهم سريعا وصفوها بـ «أيام الطيبين»، فما هي أيام الطيبين يا ترى؟ هل استخدم هذا المصطلح ليعبر عما فقدوه من رخاء الطفرة ونعيمها هذا ما سآتي عليه في مقالة لاحقة مخصصة لرمضان جيل الطفرة ولنبدأ مع جيل الكادحين المتعبين جيل خمسينات القرن الماضي لأستعيد معكم دفاتر الماضي المنسية وأكتبها من واقع مشاهدات سمعتها من الكبار الأقربين لا تبرح ذاكرتي، كي نفهم معنى المصطلح من دون «تمليح» أو «مبالغة» ثم اترك لكم الحكم؟ أولئك الطيبون ذاقوا من مرارات الحياة ما كبّدهم أحيانا حياتهم، تفتّحت أعينهم على صحراء قاحلة تتلاعب بها الرياح وتسفّ في وجوههم الرمال، لنتصور حياة أولئك في أشهر من بينها شهر رمضان الكريم وقد استبدّ بهم الجوع والعطش، ليس لديهم ما يعينهم على صيامهم سوى القليل جدا من الزاد لا يمضي نصف النهار، حتى تجف الحلوق وتطوي البطون وقيظ حارق يشوي الجلود، فلا تستغربن رجالا استلقوا بثيابهم في سواقي الماء وناموا، ماذا ينتظرون سوى انتهاء يومهم الطويل الذي بدأوه بالعمل حتى القائلة، ليدلقوا في حلوقهم الناشفة الماء البارد، أما الأكل فلا تسألن عنه! فلا شيء يستحق الذكر سوى عجينة خبزت أو طبخت مع بواقي عظام ناشفة، فرمضان بالنسبة إليهم هو شهر المشقات والتعب حقا، لذلك لا يوازي فرحهم بانتهائه سوى العيد الذي يطعمون فيه اللحم الذي لم يكن يقدم إلا بالمناسبات الاستثنائية كالأعراس أو الأعياد، فإن سألت عن فرحهم فهو حقيقي، وعن تجمعهم فهو مدفوع باستشعار كامل للانتصار في شهر رمضان على الجوع والعطش والحر، فهؤلاء يستحقون صفة أعلى من صفة الطيبة، قد تكون صفة «المتعبين الصابرين» على ويلات الحياة ومشقاتها أقرب إلى المعنى الحقيقي لطبيعة حياتهم، حتى بدأ يلامس حياتهم شيئا من التغيير بعدما استقرت أركان الدولة السعودية وأخذت تشق طريقها لبنائها بأيدي أبنائها، فكانت فرص العمل متاحة لهم، فنزحوا إلى المدن الكبيرة وتناثروا في حارات ضيقة، تتقاطع البيوت فيما بينها بعشوائية فجة، يقال انها تخطط بالأقدام لا يتجاوز البيت الواحد في الغالب 90 مترا أو100، وإن زادت 150 مترا يقطنها أسرة تأخذ بالتوسع سريعا، فلا تتعجب من بيت تسكنه أسرة أو أسرتان أو ربما ثلاث من الأخوة، لكل واحد منهم عدد لا بأس به من الأولاد والبنات، ولا تجد من يشكو القلة في الأكل أو الزحام في البيوت، لأن الشارع هو المكون الطبيعي للبيت وامتداد له، فالأولاد يقضون جل أوقاتهم بين الأزقة، يتقاذفون كرة القدم أو الطائرة أو يجلسون متحلقين حول لعبة الورق أو «المصاقيل»، تلك البلورات البحرية الملونة، لا يرون نهارا إلا في المساجد، لأن العقاب شديد لكل متخلف منهم، أما البنات بنيات الجيران ففي الأسطح متسع لهن، فالأبواب تترك مفتوحة نهارا إلى قبيل مغيب الشمس، التي تلملم معها أقدام الصغار الحافية، وتعيدهم بأفواه متلمظة إلى ما ستخرس بها قرقرة البطون الجائعة. لا يختلف رمضان عن بقية الشهور إلا بالصيام والقيام، أتحدث هنا الفترة قبيل اقتحام الصحوة أو إدارة الصحوة -إن جاز لنا التعبير- لكل تفاصيل حياة الناس، وسنأتي على ذلك لاحقا، لم يكن التلفزيون حاضرا في تفاصيل حياتهم اليومية كالمذياع مثلا الذي وضع على رف يليق بهيبته، ومع قسوة الحياة وشظف العيش هذه إلا أنها تعد نعيما مقارنة بحياة آبائهم، فقد بدأوا يستشعرون الفرح بدخول شهر رمضان لما يحمله من عادات مختلفة إلى حد ما، ومع ذلك لم يكن يعني الأكل والشرب والسهر وحتى المبالغة في بهرجة المساجد والتنافس في أصوات المقرئين هذه العادات التي جاءت لاحقا، لذلك فهو شهر يحمل طابعا روحانيا بامتياز، ومع ذلك لم يكن يؤلب على صلاة التراويح والقيام، حتى ان بعض الناس كانوا يصلونها في بيوتهم مع نسائهم وأولادهم، وفي ساعة محددة من الليل يهجعون إلى قبيل الفجر لتناول السحور. يقول من عاش صلف تلك الايام «الله لا يعيدها»، ثم يحلو للبعض بوصف زمنهم بـ «زمن الطيبين»، بينما هم لا يرون زمنهم سوى زمن «المتعبين»، حتى بدأت تتماس مع حياتهم بعض المتغيرات الطارئة، وتجعل لها مذاق مختلف، هذا ما سنتحدث عنه في الجزء التالي.
مشاركة :