جاءت الطفرة بعد سنوات عجاف انصرمت من أعمار الناس، كانت فاتحة لزمن انقلابي على مستويات أربعة؛ اقتصادية واجتماعية وتعليمية ودينية، لقد أغدقت الدولة على كل مشروعاتها المتضمنة بخططها الخمسية، خاصة خطة التنمية الثانية وما تلاها من خطط، إذ تدفقت «عوائد النفط» بما لم يسبق لها مثيل، حتى لامست شغاف أرواح الناس وتماست مباشرة مع حاجاتهم وتطلعاتهم، وطفقوا ينهلون من كل الفرص التي أتاحتها لهم وقد قلبت موازين حياة الناس دفعة واحدة، اكتشفوا أن للحياة وجها جميلا مشرقا وأيادي حانية ليست كتلك التي عصرتهم في تلك الأيام التي أسلفنا الحديث عنها بشيء من التفصيل، لقد أفاءت عليهم «عوائد النفط» بنعيم ورخاء كبيرين حسدوا عليهما، مع أن السعودية في ذاك الزمن لم تبخل على كل العرب الذين أتيحت لهم فرص العمل بعقود مجزية، كما لم تبخل على الدول قدمت لها العطايا الجزلة بـ «كرم» حاتمي، كان الزمن ينقلب مرة واحدة ومن دون استئذان وينقل المواطنين من أحياء ضيقة موحشة ليلا إلى أحياء جديدة بشوارع فسيحة مضاءة وبيوت واسعة، ليؤثثوها بما يملأ العين ويبهج النفس في مناطق كانت قبلا صحراء تتلاعب بها الرياح ولا يسمعون فيها سوى نباح الكلاب، وكأن مشاريع الطفرة كانت تشي بتدوير الأموال وتحصيلها بطريقة مشروعة بين الناس، كالبنك الزراعي ومشروع زراعة القمح الذي شفط ثروات الوطن المائية. لم يكن تحصيل الثروة بأمر صعب المنال لمن تتبع الأبواب الموصلة إليه، لقد استحضر المستقبل من دون أن يسعى إليه الناس، كان بمثابة مصباح علاء الدين السحري فكم من فقير أصبح موسرا. في هذه الأثناء وفي ظل تشاغل الناس بمكتسبات الطفرة تسلل إليهم وافدون جدد كانوا قابعين في صمتهم متحينين الفرصة السانحة للولوج إلى عمق حياة الناس بـ «لباس ديني»، لم يكن يدر في خلد الناس أنهم يتأبطون مخططا انقلابيا عالميا واسعا لتأسيس «دار الخلافة»، وزادهم لتحقيق ذلك أسفار سيد قطب منها: «هذا الدين»، و«المستقبل لهذا الدين»، و«معالم في الطريق» هذا الكتاب الذي استطاعوا بنجاح إقناع وزارة المعارف بطباعته وتزويد المكتبات المدرسية به، كما أقنعوا الناس بهم بعدما تمكّنوا بحنكة واقتدار من لملمة الفتيان من الشوارع حتى أمنوا على أبنائهم من بوائقها، وملأوا أوقاتهم بأنشطة محببة كالكرة التي فتحوا لهم من أجلها أفنية المدارس، وازداد فرحهم بهم وهم يرونهم بزيهم الجديد؛ أثواب قصيرة تخلو من مظاهر الترف وشمغ تهفهف بالهواء بلا عقل تضبطها، لم يستنكر الآباء غيابهم الطويل عن البيت. كل هذا أتاح لهم التغلغل في تفاصيل حياة الناس، لقد أحدثوا الفرق في علاقات الناس بعضهم ببعض، فما كان حلالا أصبح حراما، كما حقنوا عقول الشباب الصغار وقلوبهم بحمية علق عليها شعار الإسلام الجديد الموسوم بوسم «الصحوة المباركة» التي انطلقت بادئ ذي بدء في المدارس والمعاهد، وقد أسسوا داخلها حاضنات تحت مسميات محددة كجمعية التوعية الإسلامية وفي المعاهد أنشطة الشبيبة، وكانت قدرتهم على الاستحواذ فائقة جدا، لم يكن يحدث هذا الولاء المطلق إلا من خلال تنظيم متقن ومدروس، يبدأ من التحرّي عن استعداد العضو الجديد للانخراط بهم، كانوا يحرصون دائما على عنصرين مهمين في المستهدف، أولها قدرته على الاستجابة والتفاعل، ثانيها قدرته على التأثير، ولا يعنيهم في ذلك العلم قدر عنايتهم بالسرية والكتمان، والانقياد المطلق، ولكن ما علاقة هذا كله بموضوعنا «رمضان الطيبين أم المتعبين؟»؟ فما لا يعلمه إلا من انقاد لمشروعهم وخبر حركتهم عن قرب في مركز القيادة أن شهر رمضان تحديدا كان بالنسبة لهم منذ بدايته هو المناسبة التي يجدّون ويجتهدون فيه لكسب مزيد من الموالين المنتسبين إليهم، كما أنه الشهر الذي تتحقق من خلاله قوة التأثير على المجتمع، فمنذ بدايات العمل الصحوي كانت المراكز الصيفية هي الحاضنات للشباب لما يتوافر فيها من مغريات كثر، من اللعب، وممارسة الهوايات، ومن داخلها يتم تدريب القادة، وكل شاب داخل هذه المنظومة سيبحث له عن دور، وكما تفعل الأحزاب يصوت القادة الكبار على اختيار شيوخ الجماعات الصغيرة، لأن دائرة الخلية الواحدة ستتسع، لذلك تقسم بعد رمضان إلى جماعات صغيرة منقادة إلى شيخ واحد منهم، لا يعصون له أمرا، ولا يعترضون على قرار، ولا ينقضون له عهدا، فهو عند كثير منهم مقدم على الوالدين. قبيل نهاية شهر رمضان يرشح من مجاميع المركز الصيفي من تجاوز منهم الاختبارات الأولى للذهاب إلى مكة لأخذ عمرة وقضاء العشر الأواخر هناك، الشيء العجيب أنهم يصلون إلى مكة المكرمة وقد أعد لهم كل شيء بإتقان، السكن والمأكل والمشرب، هذه العشرة أيام ستكون حاسمة في اصطفاء القادة، وهناك في حرم الله الآمن يلتقون بالاخوة الآخرين الذين جاؤوا من كل حدب وصوب، لتتوثق عراهم، ويتعارفوا عن قرب، فالأخ وخصوصا متى كان من القادة في موقع الحظوة والتقدير، لن يعدم من سيقوم على شؤونه فيما لو سافر لأي مكان في العالم، لنتصور استشعار الشاب الذي رشح لمنصب قائد مجموعة برتبة شيخ، لجسامة هذه المسؤولية التي تجعله مواظبا في تتبع إرشادات القادة الكبار والانصياع لأوامرهم، وقد أغرقت أرواحهم باستسلام مطلق لتوجيهاتهم. هذا الحراك ذو التنظيم الشبكي المعقد جدا كان في حقيقته دولة داخل دولة، خولتهم هذه الروابط المتينة من كثير من مؤسسات الدولة، لهذا يمكن وصفنا بـ «الطيبين» جدا وأن ذاك الزمن هو زمن «الطيبين» حقا، لأنهم أسلموا قيادهم لجماعات حزبية. لنتذكر كيف كانت رمضانات تلك السنوات، كانت بعض المساجد تعج بهم، وقد نصبوا أئمة لها من حوزاتهم، ولكي يكتمل المهرجان الرمضاني كانت تنظم المحاضرات والندوات لكبار مشايخهم، حتى كانت تقدم المآكل والمشارب أثناءها. رمضان كان تجارة رابحة بامتياز لـ «الصحويين»، تجمع فيه الأموال ثم لا يعلم أين تذهب، وقد أثرى منها أناس لم يعرفوا سوى أنهم أئمة مساجد، يتوافد للصلاة خلفهم الآلاف من الناس بفعل الحملات الإعلامية التي كانت تسوّق لهم، والجميع مستفيد. لا يشبههم في ذلك سوى «سنابيو» هذا الزمان.. يثري منها أيضا المسوقون المعتمدون من أصحاب التسجيلات الإسلامية الذين استطاعوا إقناع القادرين باقتطاع جزء من صدقاتهم لنسخ تلك الصلوات والمحاضرات ألوفا مؤلفة وتوزيعها مع مساويك يابسة بالمجان على الناس.. كم كنا طيبين جدا! Almoz2012@hotmail.com almoziani@ * كاتب وروائي سعودي.
مشاركة :