رمضان الطيبين أم المتعبين؟! 2-4

  • 5/15/2019
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

انصرمت حياة ذلك الجيل الأول من الطيبين، وقد تذوقوا مرارات عيشهم المغموس بـ «الفاقة»، ورأوا «كلاحة» أيامهم التي لم تكن تمنحهم راحة وهم يكابدون نصبها، استأنست أرواحهم حينما بدأت تتحرك مزاليج التغيير، لتنفتح أمامهم فرجة صغيرة تسلل منها بصيص أمل صغير بتغيير قادم، كانت عوائد النفط بدأت تتدفق بشكل منتظم، أثّرت بشكل مباشر على حياة الناس وألقت عليهم بظلالها واستشعروا قليلا من الراحة وقد استأنسوا بالمتغيرات الطفيفة التي أشعلت بارقة الأمل الأولى، وظلوا مترقبين لمزيد من الوفرة الحياتية التي ستجلو عن أجسادهم وقلوبهم «رهق» السنوات العجاف الماضية، هذا الزمن نسميه «زمن استكشاف لذة الحياة» ولو بالقليل منها، كانت متغيرات سبعينات القرن الميلادي الماضي بطيئة، فالناس لم يبرحوا منازلهم الطينية الصغيرة داخل أحياء ضيقة، وأبواب مشرعة للجميع، ليس ثمة أغراب بينهم، فهم كالبيت الواحد، أصواتهم تسمع وخطواتهم ترصد، انتعشت وقتها المهن قليلا، وتنوعت الأسواق بالبضائع الجديدة، وأصبح بين أيدي الناس فرص جيدة إلى حد ما للكسب، وإن لم تكن كافية تماما، إلا أنها كانت تستحث الهمم للحاق بلقمة العيش بهمة ونشاط. المتغير في حياة الناس يكمن في الملبس الجديد واختلاف صنوف الأطعمة وتنوع مذاقاتها، لم تعد الحلوى من المتع صعبة المنال، ولا الأطعمة التي غزت السفرة النجدية سريعا، وحتى المشروبات الغازية كالبيبسي والكراش والكندادراي والفانتا التي أصبحوا يباشرون بها أفراحهم، كل هذه المتغيرات تعد علامات فارقة ما بين الماضي القريب والمستقبل المنتظر، كما أنها مؤشر على ذلك المنحنى الذي نقلهم لاحقا إلى ما يعرف بزمن «الطفرة». في رمضان تحديدا تتضح معالم كل هذه الأشياء في منتصف سبعينات القرن الميلادي الماضي انتعشت أجسادهم ببرودة المكيفات الصحراوية لأول مرة، قلة منهم استطاع الحصول عليه، ومن لم يقدر عليه حزم فراشه إلى المساجد التي شرعت الدولة حينها بتزويدها به، وبما أنها لم تكن مؤهلة تماما لاستقبال هذا الوافد الجديد فقد وضع ابتداء داخل المساجد، فكان الرجال بعد صلاة الظهر يتسابقون إلى اقتطاع حيز قريب منه ليتنعموا بنوم هانئ في قيلولة حامية، هذا الاختراع الجديد حرك لديهم الرغبات الأولى في الرفاهية التي لامست جلودهم الخشنة، وتطلعوا إلى المزيد منها. وقد تميز رمضان عن «رمضانات الآباء» بأكلاته الشهية، إذ تعرف الناس على الشوربة والمعكرونة والتوت والكريمة التي كان الصبيان يصنعون منها الطبول على علب حليب النيدو الكبيرة، لاحتواء الكريمة على كم وافر من النشاء، فحينما تطلى بها أوراق أكياس الاسمنت وتثبت على العلب وتشد جيدا تترك تحت حرارة الشمس يوما كاملا حتى تجف ثم يبادر الصغار للاستمتاع بإيقاعاتها العذبة تحت نقرات أصابعهم الصغيرة، لم تكن ترتعد فرائص الآباء منها، لم يمسكوه من تلابيبه ويعنفوه، بل إن بعضهم يستمتع لسماعهم. أدوّن هذه الحكايات الصغيرة لسبب بسيط جدا، وهو أنها تؤرخ لبداية المتعة المتواضعة في حياة الناس إلى قبيل «الطفرة»، فمع كل المتغيرات الطفيفة ظل كثير من الناس يتقلبون على جمر وهج الشمس اللاهبه مكتفين بمراوح معلقة تصدر صريرا رتيبا مزعجا تخالطه حرارة الأنفاس داخل بيوت ضيقة، تزامن مع هذا اقتحام الوافد الجديد الساحر الصغير (التلفزيون) الذي لم يكن يعرف منه سوى ناشيونال بلونيه الأبيض والأسود، فلم يكن مرحبا به تماما لدى كثير من الناس، قلة تلك البيوت التي تجرأت واقتنته خفية، إلا أن هذا التردد والخشية لم يلبث إلا أن تلاشى مع أحاديث الكبار والصغار عن مسلسلاته وبرامجه وأفلامه، فاشتدت الرغبة في شهر رمضان المبارك إليه، حتى ان بعض الصبية «ينقِدون» بعض رفقائهم ممن حازوا عليه مبلغا زهيدا من المال فقط لمشاهدة قصيرة، أذعن بعض الآباء على استحياء لمطالبة أبنائهم بهذا الساحر الصغير، وثبت آخرون على مواقفهم الصامدة رافضين دخوله إلى منازلهم، وقد توعدوا أبناءهم بالويل والثبور فيما لو انصاعوا لغواياته، وانقادوا لرفقائهم لمشاهدته عندهم، فكم من طفل تعرض لضرب مبرح جرّاء ذلك، ومع ذلك لم يكن يسرقهم من الأزقة وألعابهم المفضلة، حيث يقضي الصغار ليلهم الرمضاني الذي لم يكن يتجاوز العاشرة ليلا مستمتعين بألعابهم التي اخترعوها، فألعابهم النارية من الليف الناعم كانت كافية، إذ كانوا يشعلونها ويحركونها سريعا في الهواء لتحدث وهجا ناريا لافتا مسليا، وحتى مفرقعاتهم فيستخلصونها من بقايا الكربون، الذي يضعونه في الماء ويحكمون تغطيته بعلبة كبيرة يشعلون فتيلة تخترق سطحها، ثم لا يلبث أن ينفجر محدثا دويا مع تطاير العلبة عاليا، أما البنات فلم يكن أمامهن سوى أبواب البيوت المتلاصقة المفتوحة على مصراعيها إن شئن اقتطاع وقت للسمر مع صويحباتهن من بنات الجيران، وقد تغني الأسطح ذات الجدر القصيرة عن الخروج من المنزل التي لم تكن محببة كثيرا للأمهات، قبيل العاشرة يعود الجميع إلى فرشهم المفروشة في الأسطح بسعادة غامرة، يتحايلون على فحيح الأرض بحرارتها المكدسة برشقات من الماء البارد على فرشهم. أي أحلام كانت ترتاد رؤوسهم الصغيرة؟ وأي مستقبل يعدهم بالجديد المختلف؟ * كاتب وروائي سعودي. Almoz2012@hotmail.com almoziani@

مشاركة :