مع أنَّ البير كامو عاش حياةً قصيرةً. رحل وهو لم يتجاوز ستا وأربعين سنةً لكن ما قدمه من مؤلفات فلسفية وأدبية غزيرة، يُخيلُ إليك بأنَّه كان يُضاعفُ أيامه بمزيد من الإبداع والنتاجات المتنوعة، وعلى الرغم من تبصره الفكري وتَمكنهِ من تشخيص محنة الإنسان المُعاصر الذي يعاني من العبث نتيجة الإكراهات التي تستنفدُ معنى الحياة فإنَّ صاحب "الطاعون" قد تميزَّ بتواضع معرفي إن صح التعبير. وذلك الموقفُ يتجلى في مضمون خطابه بالأكاديمية السويدية أثناء تسلمه لجائزة نوبل. إذ يعبرُ عن مُفاجأته بهذا التكريم العالمي الذي نقله من حالة الإنكفاء والوحدة والإعتكاف في ورشة الكتابة إلى قلب الضوء الصارخ. لافتاً إلى كتاب كبار في أوروبا قد أخرسوا مُلمحاً إلى الشقاء الذي يمرُ به مسقط رأسه الجزائر. ومن ثُمَّ يقول بكلمات تنمُ عن إدراك عميق لما ينتظرُ العالمَ "إنَّ كل جيل يرى أنَّ مهمته، بدون شك هي أن يعيد بناء العالم، وجيلي يعلمُ رغم هذا أنَّه لن يعيد هذا البناء. إلا أنَّ مهمته ربما أصعب إنها تقومُ على منع إنمحاء العالم". مهمة الكاتب يرى كامو بأنَّ دور الكاتب ليس الوقوف إلى جوار من يصنعون التاريخ بل إصطفاف إلى جانب من يتحملون وزره. أكثر من ذلك فإنَّ ألبير كامو كتب رسالة إلى زوجة منافسه كازانتزاكي مًخاطباً إياها بأنَّ مؤلف "زوربا" يستحق هذا الشرف مائة مرة أكثر منه حسبما ذكرته الروائية العراقية لطفية الدليمي في "مملكة الروائيين العِظام". فعلاً أنَّ إقتناع كامو بقيم الحرية والإنحياز إلى الإنسانية ورفضه للتدجين الأيديولوجي هو ما رشحه أن يكون فيلسوفَ كل العصور، وتعودُ إليه الأجيال الجديدة بالإستمرار. صحيح أنه رأي في الحياة عبثاً والصورة الواضحة لهذه الحالة برأيه هي أسطورة سيزيف اليونانية إذ أصدر كتاباً بهذا العنوان، أعيد طبعه بنسخته العربية من منشورات درابين الكتب بغداد يضمُ مجموعة من المقالات عن معنى الحياة وخيار الإنتحار ورتابة دورة الأيام، ولحظة إدراك المرء لكل هذه الأمور، غير أنَّ ذلك لا يعني الهروب من الحياة لأنَّ مجرد الصراع من أجل بلوغ القمة كفيل لوحده بأن يملأَ قلب الإنسان، فبالتالي علينا أن نتصور سيزيف سعيداً على حد قول كامو. ينتقدُ كامو في أسطورة سيزيف الفلاسفة الذين ما برحوا يرددون بأنَّ الحياة خطأُ لا تستحقُ تحمل هذا العناء، بينما يمضي دعاة فلسفة التشائم أيامهم على كنف البذخ والرفاهية. ومما يلفت إنتباه ألبير كامو أنَّه لم يرَ أحداً يموت من أجل حقيقة الكينونة، فغاليلو تخلى عن اكتشافه ولم يتمسك برأيه عندما أدرك بأنَّ ذلك يكلفه حياته ثمناً. ولا يجد ألبير كامو في هذا الموقف غضاضة بل يؤيده لأنَّ دوران الأرض حول الشمس مسألة تتصف باللاإكتراث. فبنظر ألبير كامو ما هو سبب وجيه للعيش هو أيضاً سبب ممتاز للموت. إلى جانب ذلك يتوقف الفيلسوف العبثي عند ظاهرة الإنتحار مؤكداً بأنَّ قرار الإنتحار ليس وليد لحظة بل تتعشعشُ الفكرة في الرأس إلى أن تفقس نتيجة مواقف قد تكون بسيطةً. وما يتوصل إليه ألبير كامو بشأن الإنتحار أنَّه باستثناء ما ورد ذكره في الروايات والأساطير لا يوجدُ من بين المفكرين الذين نعتوا الحياة بلامعنى مفكر أقر منطقه إلى حد رفض الحياة. أزيد من هذا فإنَّ كامو يضعك أمام مفارقة، وهي أنَّ لكل الأفعال العظيمة والأفكار المُلهمة بدايات مُضحكة، كما أنَّ الأعمال العظيمة تولد في الشارع، وبذلك يأخذ العالم اللامجدي نبله. عطفاً على كل ما سبق يتناول ألبير كامو مصدر الضجر الذي يبدأُ جراء نهاية أفعال الحياة الميكانيكية، وما يُزيدُ هذا الشعور بالخواء هو نسق أيامك المُنتظم بإيقاع واحد. ويتخذُ مفهوم التفكير لدى صاحب "الموت السعيد" بعداً آخر يتمثلُ في القدرة على رؤية من مستوى جديد وإختبار وظيفة الإدراك. سجالات كامو تضم هذه الطبعة الجديدة من أسطورة سيزيف مقدمة ضافية عن مترجم الكتاب أنيس زكي حسن بقلم الكاتب العراقي علي حسين فضلاً عن المقالة التي كتبها الصحافي الأميركي آدم جونبيك، فالأخير يتساءَل لماذا نحبُ كامو؟ ويسردُ جانباً من حياة هذا الفنان مشيداً برأيه حول ضرورة عدم تضحية بالإنسان من أجل مُستقبل خيالي. ومن ثُمَّ يشيرُ إلى الثنائية الفكرية التي شكلها مع سارتر. لكن هذه الصحبة الفكرية ستتعثر بعدما ينشرُ كامو كتابه "الإنسان المتمرد" الذي أثار سخط سارتر علماً أنَّ ألبير كامو عندما قرأُ رواية "الغثيان" مدحها عاداً بطلها معبراً عن أزمتنا المُعاصرة بصورة ذهنية. وما يُعمق الخلاف بين الإثنين هو رفض كامو للمنظومة الآيدولوجية، لأنَّ ما علمه حب الحرية ليس كتب كارل ماركس بل الفقر الذي ذاق مرارته وهو طفل. إختار كامو أن يكون فناناً بدلاً من أن ينضمَ إلى صف الفلاسفة لأنَّه يفكر حسب الكلمات لا الأفكار على حدقوله. ومن المعلوم بأنَّ مكابدات والدته وتحملها لمسؤولية الأسرة بعد رحيل الوالد تؤثر على كامو إذ كانت تشتغلُ في المنازل، ويرى الابن البؤسَ مُشخصاً في حياتها لذا يصف كامو أمه بأنها خبز وأي خبز، طبعاً هذه العبارة مشحونة بدلالة عاطفية وإنسانية فلفظ الأمِ لديه مُعادل للحياة بمعناها الأوسع. ويذكرُ كامو في "عشب الأيام" بأنَّه لا يخاف من الموت، بل إن ما يشغلهُ هو العيش في الموت. وعن رأيه في الحب يقول بأنَّه رديف العقل لا تناقض بين الشعورين. يُذكر أن ألبير كامو لم يكن روائياً ولا كاتباً مسرحياً أو فيلسوفاً فحسب بل إضافة إلى كل ذلك ظهر نبوغه أيضاً في الصحافة ونشر مراجعته النقدية في الصحف، ومن ضمن نشاطاته دائما تتم الإشارة إلى ممارسته للعبة كرة القدم. وتعلم مباديء الأخلاق من الرياضة. ومن الواضح أن مشروع كامو الفكري والأدبي قد امتد تأثيره على أجيال من المثقفين، وحين تذكر الكاتبة الفرنسية فرانسواز ساغان الروافد الأساسية لتكوينها المعرفي تتوقفُ عند ألبير كامو بالتفصيل، وكانت لحظة قراءتها لـ "الإنسان المتمرد" متزامنةً مع إدراكها للفراغ الذي ينجمُ عن فقدان الإيمان بماورائيات. ما يهم كامو هو الإنسان وتغذية حب التمرد لديه على الموت والصمت الذي يواجه النداء البشري. وما يشار إليه في هذا المقام أن الفلسفة والأدب لا ينفصلان في مشروع كامو الهادف إلى تعميق النزعة الإنسانية.
مشاركة :