حوار بين حمد الجاسر - رحمه الله- وقراء اليمامة

  • 5/10/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يسأل الأخ علي بن إسماعيل الهنيدي «اليمامة» عدد ٧ ذي الحجة ٨٩.. عن كتابة التاريخ مجرداً من العاطفة أو كتابته غير مجرد منها بحكم أن كل كاتب لا يستطيع التخلي عن عاطفته: والجواب عن هذا يتضح عندما نفهم الغاية الحقيقية من التاريخ، وقد اختلف بعض الباحثين في هذه الغاية اختلافاً لا يتسع المجال لإيضاحه، ولكن الرأي الذي يوشك أن يكون مستقراً ومقبولاً لدى المعنيين بكتابة التاريخ يكاد أن ينحصر في جملة واحدة هي «التاريخ مرآة الماضي»، ويضاف إلى هذا البحث عن الفائدة من التاريخ فيحصرها بعضهم بأنها «هي التأسي والاقتداء». وعلى هذا فيجب أن يكون التاريخ مجرداً من كل عاطفة وأن يكون مكتوباً بطريقة واضحة تبين معالم التأسي والاعتبار وعلى هذا الأساس جاء القرآن الكريم موضحاً جوانب كثيرة من حياة الأمم الماضية تبرز فيها أوجه العظة والعبرة بدون ذكر التفاصيل.. وهذا الرأي المسند إلى هذه القاعدة الحكيمة هو في رأيي ورأي كل منصف ما يجب أن يقوم عليه تسجيل حوادث التاريخ.. ونجد العلامة ابن خلدون قد أوضح ذلك إيضاحاً وافياً شافياً في «مقدمة تارخه العظيم».. غير أن مما يؤسف أن قصر النظر عند كثير ممن يعنون بدراسة التاريخ في عصرنا الحاضر يفوتهم أمر عظيم الأهمية وهو التعمق في كل قضية تاريخية تعمقاً يمكنهم من الإحاطة بها من جميع جوانبها وفوات هذا يبرز كثيراً من مؤلفاتهم بصورة لا تمكن القارئ من إدراك الغاية الحقيقية من التاريخ ولا نحب أن نسترسل في ذكر الأمثلة على ذلك، بل نشير إشارة موجزة إلى ما عمله زميل لنا في «مجمع اللغة العربية» حينما أصدر مجموعة من الكتب باسم «العبقريات» وهذا الكاتب الكبير والله يغفر له قد أثرت فيه العاطفة تأثيراً حمل بعض نقاده على القول بأنه حينما أراد أن يكتب عن تاريخ تلك الشخصيات تخيلها أولاً ثم حاول أن يبرز ما تخيله إبرازاً هو في الحقيقة كامل إلا أن كثيراً من الحوادث التاريخية كانت تعوزه وليس ذلك عن قصور إدراك ولكنه بدافع النظر إلى تلك الشخصيات التي حاول إبرازها بنظرة كريمة جداً بحيث إنه نظر إلى بعض الحقائق التاريخية نظرة كانت بحاجة إلى أن يتعمق في دراستها؛ وهذا ما حملني عندما استشارني أحد أبنائي في الكتابة عن إحدى تلك الشخصيات ورأيته عول فيها على ما كتبه هذا الكاتب الكبير، فقلت له يحسن أن ترجع إلى المصادر الأولى التي كتبت عن هذه الشخصية وألا تتأثر بما كتبه هذا بأسلوب هو في الحقيقة في الذروة الأولى من حيث الإيضاح والبيان وإبراز الصور بأبهى صورة. إن الإنسان هو الإنسان مهما كان والتاريخ هو التاريخ في مختلف العصور والمرء يشاهد بعيني رأسه حادثة من الحوادث ولكنه حينما يقرأ ما كتب عنها يجد الاختلاف واسعاً - والبون بعيداً - وما ذلك إلا لأن كل كاتب تأثر أكثر مما شاهد وعلم تأثر بعاطفته وفكره وويل للتاريخ حينما يكتب بتأثير العاطفة. الوراقون وأثرهم في التدوين التاريخي الأدبي ويسأل الأخ محمد بن إبراهيم الطارقي من بلاد الجوف عن دور الوراقين في الأدب وعن المصادر القديمة والحديثة وعن أشهر الوراقين.. والسؤال فضفاض تحتاج الإجابة عنه إلى كتب لا صفحات.. وقال القدماء في حكمهم «يكفي من القلادة ما أحاط بالجيد».. إن الوراقين في القديم هم من نطلق عليهم في العصر الحديث اسم «الكتبية» أي أصحاب المكتبات.. وكل عصر من العصور منذ أن بدأ التدوين في القرن الثاني الهجري إلى يومنا هذا كان مشحوناً بهؤلاء.. ولقد كان الوراقون في العصور الأولى من أثرى المواد لكل من يريد أن يكتب في أية ناحية من النواحي الثقافية المتشعبة ولولاهم لفقدت الثقافة العربية مصدراً عظيماً من أعظم مصادرها وحسبنا أن نشير إلى أن كاتب العربية العظيم «الجاحظ» كان يتخذ من مكتباتهم المصدر الأول لتسجيل كثير من ملعوماته التي حفظها لنا في مؤلفاته العديدة. ونشير أيضاً إلى مصدر من أهم مصادر تاريخ الثقافة العربية هو كتاب «الفهرست» لابن النديم وهو معروف ومطبوع وابن النديم هذا كان ممن وجد في الوراقين بغيته الكاملة التي أبرزت لنا هذا الأثر العظيم من آثاره. وفي هذا الكتاب معلومات وافية من أشهر وراقي القرن الرابع الهجري ممن ترجمهم في كتابه واستفاد منهم موضحاً ومصرحاً كابن الكوفي وغيره. وممن ذكره الوراق العظيم «ابن أبي سعد» وهذا العالم نجد أوفى ترجمة له في كتاب «مناسك الحج» للإمام الحربي وهو الحلقة التاسعة من منشورات دار اليمامة: هذا الوراق كان من مصادر كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني أو في كتاب خلفه لنا المتقدمون عن الأدب العربي، شعراً ونثراً وخبراً وحسبك به أنه أصبح إلى عهدنا الحاضر المادة الثرة لدراسة الأدب العربي وما يتصل به، وحسبك أن تعلم أن من أطلقوا عليه في عصرنا الحاضر «أمير البيان» الأمير شكيب أرسلان قد قال في وصفه ما معناه بأنه قرأ هذا الكتاب أكثر من ستين مرة.. إن كتاباً يقع في واحد وعشرين مجلداً ويقرأه هذا الكاتب العظيم الذي شغلته السياسة «وبلاويها» أكثر ما شغله أمر غيرها ثم يمدنا بهذه الثروة الكبيرة من المؤلفات في الأدب والتاريخ وغيرهما حسبك بهذا دليلاً على أثر الوراقين ثم مع ذلك تجد كثيراً من مصادر هذا الكتاب العظيم منبعه ماحفلت به حوانيت الوراقين مما أصبح الآن مفقوداً بيننا من المؤلفات الكثيرة. وقد عني بعض الباحثين المتأخرين بالكتابة عن هذا الموضوع فأعياهم البحث.. وقدموا لنا شيئاً يسيراً يصح أن يقال عنه بأنه قطرة من بحر. وبالمناسبة فقد زرت في هذه الأيام أصدقاء لي في «المعهد» الألماني للدراسات الشرقية ويتولى إدارته شاب ألماني درس العربية دراسة عمق يدعى الأستاذ ويلد فطلبت منه كتاباً كان طبع في الشام فقال لي هذا الكتاب موجود لدينا وقد قدمه لنا وراق هذا العصر السيد أحمد عبيد صاحب المكتبة العربية بدمشق، فقلت له ولماذا أطلقت عليه اسم الوراق فقال ما معناه أن الرجل وإن كان صاحب مكتبة وتاجر كتب إلا أنه أبرز في فكرة ما كان يتحلى به وراقو العصور الأولى من حيث الإحاطة والعمق فيما يتعلق بمعرفة الكتب قديمها وحديثها. أما إذا كان أخونا السائل يريد أن يؤلف في الموضوع فالأمر يستدعي بحثاً أعمق من هذا وتفصيلاً أوفى كي نقدم له مصادر وافية عن الوراقين نجد نماذج منها في فهرست ابن النديم وفي غيره من المؤلفات العظيمة كتاريخ بغداد وغيره من المؤلفات مما لا تتسع له رحابة صدور قراء صحيفة تريد أن تقطف من كل ثمرة يانعها وأن تجني من كل بستان أحسن ثماره وللسائلين الكريمين وللصحيفة التي أحمل لها في قلبي كل محبة لارتباطها بحياتي الصحفية أوثق ارتباط وللقراء ولكل أولئك أطيب تحية أعمق تقدير.

مشاركة :