حينما يتحدث علامة الجزيرة حمد الجاسر رحمه الله - أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

  • 12/23/2022
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

قال أبو عبدالرحمن: كنت قد أجريتُ حواراً مع شيخي وأستاذي الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- ونشر في جريدة الجزيرة في العدد 1190 تاريخ 19 ربيع الثاني 1395هـ/ 30 أبريل 1975م، وشيخنا حمد الجاسر يحمل لقبين في الوسط الأدبي والعلمي في الجزيرة العربية، أحدهما علامة الجزيرة لتخصصه في دراسة التراث وإحاطته بمؤلفات العرب والمسلمين في بقاع العالم، ومتابعته لما ينشر من التراث، ولريادته فيما يتعلق بتاريخ الجزيرة وجغرافيتها؛ وهو صاحب منهج جيد في تحقيق المخطوطات، لا يقدره حق قدره إلا من جرب التحقيق، وتبدو دقة الأستاذ حمد في استدراكاته الحاذقة الجيدة على كبار المحققين، فلا عجب إذا كان شيخنا مرجعاً لمعجم المجمع اللغوي، ولا عجب إذا توسل إليه مثل الأستاذ الدكتور إحسان عباس في تحقيق الأماكن الواردة في شعر كثير عزة.. وثانيهما: أستاذ الجيل؛ لأنه رائد صحفي عريق في المنطقة الوسطى، ولأن تلامذته كثر بلور معرفتهم بما حولهم، ولم يكن حمد الجاسر سمير طرس، وأوراقاً صفراء وحسب، بل كان رحالة جاب أقطار العالم، وخبر أوضاعهم؛ فكان مدرسة في فهم أحداث العالم وفي اعتناق النقد الهادف البناء؛ بل كانت له مدرسة في حقله الخاص (تحقيق الأماكن)، تتمثل في المشايخ عبدالله بن خميس، ومحمد ناصر العبودي، والعقيلي والجنيدل. قال أبو عبدالرحمن: إنني لا أطري حمد الجاسر لشهرته لأن الشهرة نقلت بميزان من لا وزن له، وإنما هي حقائق ملموسة تنادي على أهلية حمد لهذه الشهرة، وعسى أن يجد قراء الجزيرة في هذا اللقاء السريع ما يعطي لمحة عاجلة عن شيخي حمد الجاسر. قال أبو عبدالرحمن: عرفتُ أستاذنا حمد الجاسر عازفاً عن التآليف وإن كان مكثراً في الأبحاث التي ينشرها في الصحف والمجلات والدوريات، ومنذ تأسست دار اليمامة بدأ نشاط الشيخ في التأليف والتحقيق فأصدر كتباً تعد كثيرة بالنسبة لقرب عهده بالتأليف، فهذه ظاهرة تخلف وراءها علامة استفهام، وإليكم ما يقوله الشيخ حمد: ((في أول نشأتي كنت من أحرص الناس على أن أعد من الكتاب والشعراء، ولي محاولات لا أقول أنها مضحكة ولكنني أعتبرها من الأمور البديهيات التي تحدث من كل ناشئ مثلي؛ فأذكر أنني في سنة 1349هـ نشرت أول مقال لي في جريدة (صوت الحجاز) بعنوان: (قل الحق وإنْ كان مراً)، وكنت أقوم أنا وطلاب المعهد بكتابة وريقات ندعوها مجلة ونطلق عليها اسم (الشباب الناهض)، ويتولى كتابتها كلها الأستاذ أحمد عبدالغفور عطار بخطه الجميل، وقد يلصق في بعض المقالات شيئاً من الصور، وكنا نتصدى لمن هو أعلى مقاماً منا وأكبر سناً.. وأذكر أنني كتبتُ في تلك الوريقات نقداً لأول رواية ألفها الأستاذ أحمد علي باكثير -رحمه الله - أحفظ بعض عنوان هذه الرواية (في صحراء الأحقاف).. كما نشرتُ في هذه الوريقات هجاء لأشهر شاعر في ذلك الوقت، بل قمت بتأليف كتاب في الرد على عالم يدعى مصطفى أبو سيف المحامي، ويدعو نفسه (حمام الحرم الزينبي)، ويقصد مسجد السيدة زينب بمصر، وقد ألف كتاباً حشاه بالبدع والخرافات وسماه: (أنبل مقول في تقدير الرسول)، وبالغ في تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تجاوز في مبالغاته المعقول.. وكان يقول في أحد فصوله: فصل في أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول للشيء كن فيكون، وفصل في أن النبي صلى الله عليه وسلم يعطي السائل ما سأله من أمور الدنيا والآخرة.. وأمثال هذه المبالغات وأنواع الغلو المحرمة شرعاً وعقلاً كثيرة في كتابه.. وعنوان ردي مستعار وهو (السيف الصقيل) ألفته وأنا طالب في المعهد الإسلامي السعودي وهذا اسمه.. ولقد اطلع عليه أساتذتي فأثنوا عليه، وبالغوا في الثناء ولا أتهمهم في ثنائهم ، ولكنني أعتقد أنه من قبيل التشجيع لي، وكان منهم الشيخ محمد بن عثمان الشاوي، والشيخ محمد بن علي البيز، ونشرت شيئاً من النظم كنت أسميه شعراً.. أذكر من ذلك أن جلالة الملك فيصل لما عاد من اليمن وهو إذ ذاك نائب جلالة والده في الحجاز أقيم له احتفال في جرول بمكة المكرمة ، فتقدمت باسم شاعر المعهد وألقيت قصيدة منظومة أولها: بمن حف الأقوام فازدان محفل وأضحت بلاد الله بالبشر ترفل وجرى مثل هذا في مناسبات كثيرة؛ فأنت ترى مما تقدم: أنَّ في نفسي حوافز قوية نحو البروز في مجال النشر؛ أي أن عندي رغبة في أن أكتب وأنشر وأقدم للقراء ما أستطيع تقديمه.. وبعد عهد الدراسة اشتغلتُ في التعليم فحاولت أن أسجل بعض تجارب عن ممارستي لتلك المهنة، ولا تزال تلك المحاولات موجودة لدي ولكنها ليست جديرة بالنشر)). قال أبو عبدالرحمن: هذا هو علامة الجزيرة في بدايته ألف ولم يستهدف، وإنما حصل له الثناء والتقدير، ولكنه اعتبر هذه المحاولات غير جديرة فوأدها النسيان، وإن مؤلفات حمد وتحقيقاته الدقيقة التي نشرها دليل على أنه وجد الظرف المناسب للنشر، وكل العلماء تمر بحياتهم مرحلة صلف وغرور، كما أنها تمر بهم مرحلة متشاعرة؛ فكل طالب علم حاول النظم، ويبدو أن الجاسر يبالغ في الاستخفاف بمحاولاته لأنه أسمعنا شعراً جيداً وشح على القارئ بنشره.. ولقد لوح في حديثه الشفهي أنَّ شيخه محمد بن علي البيز -رحمه الله - داعبه بكلمة حول قيام الجاسر بتحقيق مكان ربما كان ينسب لأم جعفر يشي بأنه لم يجد قارئاً ، فربما كان هذا سبباً في تأخر حمد عن النشر مبكراً، على أن البيز كتب للجاسر يثني على أول عدد صدر من اليمامة، وكنتُ أود أن أسأل شيخنا عن اتهام عبدالله نور له بأنه رسب في النحو، ولكن فات الأوان ولم أذكر ذلك إلا عند تبيض هذه المقابلة، وعلمنا أن للجاسر ديوان شعر ضخم أحرقه، وعلمنا أن لشيخنا قلباً خفاقاً اكتوى بنار الحب ، وتنعم بعذابه، وعنده زهادة في شعره هو ، أما شعر الآخرين الجيد فيستثيره؛ وهو يتمثل بقول الشاعر: إذا الشعر لم يهززك عند سماعه فليس جديراً أن يقال له شعر وأول ما طبع لشيخنا (مدينة الرياض) ثم تتالت مؤلفاته وتحقيقاته، وله: القطائع النبوية، والمعادن في جزيرة العرب، وطرق الحج والتجارة في الجزيرة، ومعجم خيل العرب، اهتم به منذ سنة 1960م، وأيام العرب، وميزته في الاستدراك والتصحيح وتحديد مكان الأيام وتجاوز القبائل.. وهذا سؤال طرحته على الشيخ حمد: قال أبو عبدالرحمن: مؤلفاتكم وتحقيقاتكم كلها حول الأماكن فما سر هذا الاهتمام وما سببه؟!. قال الشيخ حمد: ((أشرتُ في كتابي عن ينبع إلى قصة خجلي من طلابي عندما استشهدت لهم بشعر أبي العلاء المعري في لاميته وحددت رضوى بمكان بعيد مع أن جبل رضوى يطل على الفصل وذلك سنة 1354هـ ؛ فآليتُ أن أتفرغ لدراسة الأماكن وعكفتُ على معجم البلدان لياقوت الحموي في فترة وجيزة)). قال أبو عبدالرحمن: إذن بحثكم عن الأماكن مجرد هواية لا غاية؟. قال الشيخ حمد رحمه الله: بل هو وسيلة لغاية، فلسنا نستطيع أن نفهم أدبنا وتاريخنا بل ولغتنا الفهم الكامل التام ما لم يكن لدينا التصور الكافي الصحيح للبيئة التي ثبت فيها الأدب ونما، وفيها وجدت هذه الأمور التي اتخذت اللغة العربية لغة لها.. وإذن فإن دراسة ما يتصل بالأمكنة والمواضيع يعتبر من أقوى الوسائل لصيانة ما تعتز به الأمة ويميزها من كيان، واهتمامي بالأنساب والتاريخ متمم لهذا الموضوع، والعكس صحيح لأن تقارب المواضيع دليل على تقارب الأنساب أو وجود الأحلاف التي تربط القبائل. قال أبو عبدالرحمن: فُجِعَتْ الأمة بفقيدها شيخنا العلامة، وأستاذ الجيل بحقٍّ (حمد بن محمد الجاسر) قدَّس الله روحه، ونوَّر ضريحه، وطيَّب ثراه ومثواه.. وأعني بالأمة أمة الضاد، وأمة التاريخ المتلعثم المنكود، وأمة التراث المبدَّد الذي لقراءته خصوص سياسة، وأمة الوعي المبكر بهموم الحاضر والناظر، وأمة طلبة العلم المدقعين الذين: فقدوا يداً حانية، وعقلاً مربياً.. وكنتُ أثناء وفاته في سفر طويل خارج المملكة، وفي هموم بيتية، وتطلعات علمية، وأعباء شاغلة.. ولا تبتسم تجليات الشعر في ساعات الحزن؛ فلما سكن الفؤاد ضربتُ على أوتاره حتى تفجر بهذه الدَّالِيَّة؛ وهي على علاتها، ونظميتها أقصى ما يقدر عليه مُعَنّىً شغلته حقائقُ العلم عن اقتناص تجليات الجمال، وقد اخترت لكم هذه الأبيات التي قلت فيها: أرى عبرة الناعي غضاً يتوقَّدُ ولكنْ لأحناءِ الضلوعِ تُبَرِّدُ ولولا شِفاءُ الدمعِ ما شُفِعَ الدَّمُ ولا جفَّ نَبْعٌ نهرُهُ يَتَخَدَّد وكم قد بكى جَلْدٌ فما رُدَّ غائب كأن أَمَاقَ العينَ بالبحر تُثْمد فعادوا يلومون البَكِيَّ من النوى على الطبع من مخفورة تَتَنَهَّد وما حبسوا ماء العيون تجلُّداً ولكنها غارت فما عادَ يُسْعِدُ ونحن بنو الإسلام نرضى بما مضى به قدر حتْمٌ فما عنه عُنْدُدُ قال أبو عبدالرحمن: العندد: الاحتيال. وليس مع الإسلام عين سخينة ولا حسرة تنثال أو تَتَجَدَّد فلذنا بحصن الصبر.. والصبر قُربةٌ به نَيْلُ ذُخْرٍ واليقين مُوَطَّد وفي الله منا أَنْفُسٌ رِيْعَ نَبْضُها ولله فينا منهلٌ سوف يُفْقد ووجدي عليكَ الوجدُ غيرُ مُفَرَّقٍ ووجدي عليك الوجدُ لا يَتَحَدَّد وَفَقْدِيْكَ فقدُ العينِ إنسانَ نورها وَفَقْدُ دنيفٍ قصْدَهُ وهو مُقْصَدُ قال أبو عبدالرحمن: مُقْصَد: مصاب. سيبكيك ناءٍ ما رآك وإنما له من لآليكَ الفريداتِ مَعْهد ويبكي لأنَّ العلم رهنٌ بأهله بِهِمْ ما حَيَواْ يحيا وبالموت يُوْأَد ويبكيك شادٍ للعلوم وَجِهبذٌ يُأَرِّقُهُ فقرٌ وحظ مُلَدَّد قال أبو عبدالرحمن: الملدد: المحيَّر . فواسيتَ بالنعماء عانيكَ مُسْعِداً وإنك من أجل المواساة أَسْعَد شريككَ في الميسور جَمْعٌ عَرَمْرَمٌ ولكنْ شريكُ الفضلِ يَعْيا وَيَجْهَدُ وتبكيك أعلام الجزيرة كُلُّها جبالٌ ووديانٌ وحزم وَفَدْفَد قال أبو عبدالرحمن: الفدفد: الأرض المستوية. وتبكيك أَحْياءُ القبائلِ مِنَّـةً بنو يَعْرَبَ الأقصى ومن يتمعدد قال أبو عبدالرحمن: التمعدد نسبة إلى معد بن عدنان. ألا إنَّ أجيال المعارف خِصْبَةٌ وإبداعَ قومي حافلٌ يَتَجَدَّد فطفتَ بأرجاء البسيطة رائداً كنوزَ تراثِ عِقْدُهُ مُتَبَدِّد تُصَحَّحُ وَهْمَاً أو تَداركُ فائتاً وليس بمُعْتاصٍ عليكَ الْـمُعَقَّد رسمت سبيل النشرِ دون تحذْلُقٍ وقد عاث في التحقيق من ليس يُحْمَد: حَنَوْتَ على أبناء جيلكَ قَيِّماً لأنَّ بناءَ الجيلِ أَوْلى وأوكد وَعَاطَيْتَ بالبرهانِ كلَّ مُهَذَّبٍ وأنتَ بِبَذْلِ العلم أنْدى وأجود وكنتَ على بحر من العلم مُزْبدٍ تُرَوِّضُهُ للفهمِ أو تَتَصَيَّدُ حديثُك ترياقٌ وفِكْرك عبرةٌ وصبْركَ تلْقينٌ وذِكرك فَرْقد تُفَجِّرُ ماضي أُمَّة حَارَ عِزُّها لأنَّ شموخَ الأمْسِ لليومِ أَعْوَد ويا واسعَ الإحسانِ عَفْوكَ نرتجي وإيِّاك يرجو ذو ذنوبٍ مَوَحِّد ونرجو له في روضةِ القبرِ مَخْلَدَاً وفي جنةِ الفردوسِ بَدْأً يُخَلَّدُ وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان. ** ** (محمَّد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -

مشاركة :