التجريب في الرواية العربية

  • 5/11/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

ما زلنا على مائدة التجريب في جلسات ملتقى القاهرة السابع للإبداع الروائي العربي "الرواية في عصر المعلومات" بقاعات المجلس الأعلى للثقافة (دورة الطيب صالح)، وفي جلسة رأسها الناقد د. فصيل دراج تحدثت الباحثة نانسي إبراهيم عن ملامح التجريب في رواية "سيدة الزمالك" للروائي أشرف العشماوي، ونقلت عن الناقد الروسي ميخائيل باختين قوله: "إن الرواية هي الشكل الأدبي الوحيد الذي يرفض الاكتمال"، وأضافت: من هنا اجتهد كثير من كتاب الرواية في خلق نص جديد غير مألوف في مقابل النص التقليدي والتذوُّق المستقر لإحداث دهشة مستمرة عن طريق تنوُّع أساليب السرد وتطوُّر الأدوات الفنية الإجرائية إضافة إلى تطوُّر الوعي الأيديولوجي في ظل تطور مجريات النقد الثقافي. وأوضحت نانسي إبراهيم أن رواية "سيدة الزمالك" تعد أحد هذه النماذج التي ابتعدت عن تقليدية النمط السردي، حيث اعتمدت على تعدُّد مستوياته وانفتاحه الدلالي والتماس الحي مع واقع متغير، وحاضر مستمر عن طريق حدث حقيقي يتشكَّل في نمط روائي، يتصل بالواقع ويتصارع معه، يغترب عنه ويقترب منه في آن، عن طريق رسم شخوص تبتعد عن النمط المثالي المتوقع والمألوف، حيث اعتمد الكاتب على تصوير الأبعاد النفسية لشخوصه في ظل منظومة أيديولوجية متغيِّرة تربط النفسي بالوصفي بالواقع السياسي المحيط بصورة تجعل للكاتب أسلوبية مائزة نستطيع رصد تطوراتها بوضوح مع كل عمل جديد له، حيث تعيد تصوير العالم من خلال الوعي به ومحاكاة واقعيته ومقاومتها بنمط تخييلي جديد. وأشارت الباحثة إلى أن البحث المقدم للملتقى يعتمد على توضيح ملامح التجريب بدءًا من دلالته اللغوية والاصطلاحية مرورًا بعلاقته مع مفاهيم متماسة معه كالأصالة والتغريب، مع قراءة لمجمل ملامح الكتابة الروائية التجريبية لدى أشرف العشماوي، ثم قراءة تطبيقية للرواية. وعن "برزخ في التجريب الروائي العربي" تحدث الناقد السوري نبيل سليمان، فقال: أيًّا يكن نسب الرواية العربية، فالتجريب رافعة كبرى لتطوير هذا الفن، بما يعنيه من نقض للبناء الروائي التقليدي المحكم، دون إغفال ما يعتوره من استسهال ومن جهل. وأوضح أن التجريب وَسَمَ ولادات الرواية العربية، منذ منتصف القرن التاسع عشر، مرورًا بالولادة التي ترمز إليها تجربة نجيب محفوظ، فالولادة التي ترمز إليها تجارب صنع الله إبراهيم وإدوار الخراط.، وصولاً إلى ما يبدو المخاض العسير الراهن. وعبر ذلك كانت للتجريب برازخ شتى، ربما يكون من أهمها ما يلي: التجريب في الريادة الروائية ومثاله الناصع في روايتي فرنسيس المراش "در الصدف في غرائب الصدف" – 1872، وميخائيل الصقال "لطائف السمر في الزهرة والقمر" - 1907. وأشار نبيل سليمان إلى أن الحفريات في التراث السردي تجلت في صيغ التدوين؛ روايات: "مدونة الاعترافات والأسرار" لصلاح بوجاه، و"الدفتر" لإميل حبيبي، "إخطية" لجمال الغيطاني، "دفاتر التدوين"، والكتاب: (إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء أبي سعيد النحس المتسائل" – واسيني الأعرج "كتاب الأمير") والرسالة (جمال الغيطاني "رسالة الوجد والصبابة"). والتنضيد: المتن والهامش (رجاء عالم "حبي" – صنع الله إبراهيم "أمريكاني"). وتعدد الطبقات السردية واشتباك التنوع الأجناسي: (حبيب عبدالرب سروري "تقرير الهدد" – صنع الله إبراهيم "ذات"). والتشذير والتشظي: (مؤنس الرزاز "الشظايا والفسيفساء" - منذر حلوم "أولاد سكيبة"). كما أشار إلى الميتارواية: (سميحة خريس "نارة"، "إمبراطورية ورق" – طالب الرفاعي "سمر كلمات"). والتتريث اللغوي: (هاشم غرايبة "رؤيا" – فرج الحوار "الموت والبحر"). وقال: بالإضافة إلى ما تقدم، كان من منجزات التجريب تكسير العمود السردي أو السبك اللغوي، ومن التجريب ما جاء معوقًا كما في التتريث والتتقين. أما الباحثة نهلة راحيل فقد تناولت مستويات التجريب وديستوبيا الواقع في رواية "حرب الكلب الثانية" لإبراهيم نصر الله، وقالت: تظل الرواية، إلى الآن، جنسًا مراوغًا قابلاً للتطور، مما يجعلها حقلاً خصبًا لممارسة أنواع مختلفة من التجريب التي يوظفها الأديب داخل منجزه الروائي لتهشيم البنى السردية الكلاسيكية، ونسج بنى جديدة تتقاطع مع أشكال تعبيرية أخرى. ويعد تغليب الملمح العجائبي واستعارة مقوماته أحد مظاهر التجريب التي انفتح عليها الخطاب الروائي بعد أن مارسه عديد من الروائيين العرب واتخذوه قالبًا تنهض عليه نصوصهم الروائية، بهدف كشف الواقع المرير عبر مجابهته بنمط غير واقعي قد يصدم المتلقي. وأضافت أن الخيال العلمي من أساليب التجريب التي اعتمدها الأدباء في أعمالهم من أجل التنبؤ بالمستقبل، فهو محكي استباقي ينطلق من معطيات العلم في اللحظة الراهنة، ويدخل في حوار مع واقع جديد وإنسان جديد في المجتمع الآتي، ورغم التقاء الخيال العلمي مع الفانتازيا فإنه مستقل بذاته، لكونه رؤية استشرافية للعالم ذات جذور واقعية، فالخيال العلمي ينطلق كالفانتازيا من الواقع، معتمدًا على التنبؤ والاحتمال بوصفهما قيمتين أساسيتين تنهضان بوظيفة تحذيرية. وأوضحت أن الدراسة الحالية تقوم على رصد آليات التجريب التي اعتمدها الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله، لبناء محكي تخيلي غير اعتيادي في روايته "حرب الكلب الثانية" (2016)، التي يسرد بها واقعًا مجتمعيًّا مريرًا بأسلوب فانتازي يفيد من الخيال العلمي لفضح الواقع وكشف تشوهاته. وإشارت إلى أن قراءتها تعتمد على مقولات النقد الثقافي الذي يهدف إلى كشف الأنساق المضمرة داخل النص الأدبي، بوصفه حادثة ثقافية قبل أن يكون قيمة جمالية، مع الإفادة من مقولات داركو سوفين عن الخيال العلمي ومحدداته الإجرائية ورؤيته للأدب اليوتوبي. وعن "الرواية ‏العربية وصناعة حدود التجريب" تساءل الباحث يحيى امقاسم: هل تصنع الرواية ‏العربية، انطلاقًا من داخلها وتاريخها، الحدود أمام التجريب بوسائل العلم الحديث وتقنياته المعاصرة؟! وقال: سأبدأ بهذا السؤال لنثير أسئلة كثيرة حول تاريخ التجريب في الرواية العربية التي شهدت أشكال التجريب الروائي المرتبطة بها دون غيرها، والخالصة من أي محاكاة لجنسها في جغرافيا غير عربية، ولم تتشرَّب من العلم ما يجعل أدواته فاعلة ومحركة ودافعة لتجربتها في الوطن العربي. وأكد أن الجميع يعرف مآثر ذلك التجريب القادم من الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي. وقال: يمكن أن نستشهد بأعمال عملاقة بدايةً من التجريب بالموضوع عند نجيب محفوظ كروايات "أولاد حارتنا"، "الطريق" ثم على مستوى اللغة والمعالجة في رواية "أفراح القبة"، ثم علامات للتجريب المتقدم في روايات "الزيني بركات" لجمال الغيطاني، و"تلك الرائحة" و"بيروت بيروت" لصنع الله إبراهيم. وأوضح أن محاور النقاش في ورقته تدور حول: التجريب بصفته تيارًا يفتح آفاقًا جديدة عند المبدع، لكن ما الانتماء الذي يرتجيه ذلك التجريب أو يواكبه ليقدم تلك الإضافة للسرد العربي اليوم؟! (يمكن استعراض تدخل التجريب المعروف في البناء السردي أو اللغوي وغيرهما)، وحيال هذا ستطرح الأسئلة حول مدى قبول الرواية العربية بالتجريب المنجز من قبل التقنيات المعاصرة، وكيف تستجيب ذاكرة الرواية للشكل المراد خروجه من تلك الوسائل؟ وما مظاهر التجريب اليوم التي دعت الهاجس للتفكير فيها والتوجُّس من آثارها على الرواية العربية؟ وتساءل يحيى امقاسم إن كانت الرواية العربية في طفولتها قد استقت من الرواية الأوروبية التقليدية، وتدافع نتاجها في الظهور والتطوُّر بعوامل مختلفة، فكيف ستقرأ شكلها، إن سلَّمنا بولادة ذلك الشكل من رحم التقنية وإلى ماذا ستعيد عوامل اكتمالها؟ هل من روايات أتت بلغة غير عربية من التقنية الحديثة ومن خارج حدود الرواية العربية لنشهد تجربة يعترف بها في حقل الرواية؟ ثم أضاف: الثورة التقنية أو العلم كنوع من المنظور الآخر، أو الخارجي عن المنظور المعتاد للرواية التي تطوِّرها في حقيقة الأمر يأتي من الداخل كجنس فني أدبي، فإدخال التقنية القادمة والمتسارعة من الحاضر هو فعل مستقل وإقحامها على الرواية أو رهان البعض على التجديد هو عامل إضعاف في ذات سينبذه تاريخ الرواية الذي لعلامته المكانة الكبرى في نتاج السرد العربي غير المتقبل لما قد يضعف الرواية أو يسهم في ميلاد جديد للشكل. وأضاف: التقنية وحدثها العلمي ادَّعى أنه قدم عملًا روائيًّا، وهذا نجده في مجال "الساينس فيكشن"، الخيال العلمي، وهو ما يذهب إليه نقاد في وصفه بـ "التعديل الأعلى عن علاقة الرواية بالأدب"، وفي الحقيقة أن هذا التعديل الأعلى لم يقدِّم ميزة تجعله متجاوزًا للأعمال الروائية الكبرى التقليدية (هناك أمثلة يمكن سردها في الرواية العربية.. أعمال تقليدية)، وهي أعمال استمدَّت قدراتها ومقوِّماتها من التاريخ الذي يسائل الإنسان فيه ماضيه وحاضره ومستقبله، ولم يكن يعتمد على التقنيات التي لا يعني وجودها اليوم للرواية سوى الناقل المستحدث، بينما دخولها كعنصر أساس يعد من قبيل المحتم والمفروض على الرواية العربية التي تنهض بذاتها بعيدًا عن أي تدخُّلات. ويؤكد امقاسم مذهب النقاد الكبار من حيث إن الرواية عمل دقيق في اللغة والروح والزمن، وهذا أمر لا نزاع فيه وهو ملازم للعملية الإبداعية في كتابة الرواية التي استفادت من التقنيات استفادة عابرة وهامشية وليست أساسية. وأوضح أن التجريب في السرد العربي يشتقُّ من داخل تاريخ التجريب الروائي ولا يأتي من خارجه، الخارج الذي مثاله الطفرة الحديثة في التقنيات والمعلومات التي لم تقدِّم أي نزعة إنسانية هي جوهر العمل الروائي لا جوهر تلك الوسائل الناقلة فقط وليست المنتجة لعمل رائد. وعن "الرواية ومتخيل الفضاء الشفاهي" تناول بحث ياسين النصير ثلاث قضايا رئيسية تعالجها الرواية الحديثة؛ القضية الأولى علاقة الرواية بالأمكنة المتخيلة الشفاهية، وهذه الأمكنة المتخيلة، إما أمكنة واقعية جرى تغيبها تاريخيًّا فأصبحت متخيلة لشعوبها الحالية، فما كان منها إلا الحلم بالعودة إليها، أو بالسعي إلى تحقيقها، كما يحلم الفلسطيني بالعودة إلى أرضه المغتصبة، ويحلم الإسرائيلي بالاستيلاء على أرض عربية من الفرات إلى النيل، حلم الفلسطيني واقعي جرى تغييبه، تحاول الرواية استعادته من خلال رسم صورة متخيلة للواقع الفعلي، في حين يكون حلم الإسرائيلي حلمًا يوتوبيًّا يستند على أوهام دينية بارض موعودة ليست واقعية، ولكنه حلم رسم له صورة افتراضية. كلا الحلمين بالأرض الواقعية التي تحولت بفعل الاستيطان إلى حلم نضالي، يدفع فن الرواية إلى تغليب الحقائق والابتعاد عن الوهم، وبالتالي رفض كل تصور عن أن يصبح المتخيل الوهمي حقيقة، وهو ما يركِّز عليه نضال الشعب الفلسطيني من أجل أرضه ومستقبله. وعن القضية الثانية أوضح أن الفضاءات الكبيرة كالبحار والصحراء والغابات والأهوار، والتراب والماء والسماء والنار، تشكل أحلام يقظة لأمكنة شعرية متخيلة، وقد سعت الحكاية الشعبية أول الأمر لاحتوائها بطرق فنية غرائبية، ثم حاولت الرواية الحديثة استثمارها معلوماتيًّا فقرأتها قراءة مكانية وأنثروبولوجية ووثائقية، وصيَّرت منها أمكنة لواقعية سحرية محتملة، مثلما يحدث لأدب الصحراء والمدن المتحولة واليوتوبيات الشعبية المتخيلة. أما القضية الثالثة فهي الكشف فنيًّا عن الفضاءات المتخيَّلة في الفضاءات الواقعية، وتكون مادتها السردية هي اللغة، وبذلك ستكون أمكنة فنية مغايرة للأمكنة الواقعية، وسنجد أن الأمكنة الشفاهية المتخيلة المنبثقة من الأمكنة الواقعية، تمتلك وثائق ومدونات مفترضة، ولها ناسها ومستثمروها، وهذه القضية فنية، بل وتعد جوهر التحولات الروائية الحداثية التي انتقلت فنيًّا من السرد الواقعي إلى السرد الفني المتخيَّل الذي يحتوي الشفاهي واليوتوبي والفضاءات الإيهامية، والهندسي، والمحتمل، والمطابق، لذلك يسعى البحث إلى رسم خارطة من ثلاثة أضلاع للأمكنة والفضاءات الشفاهية المتخيلة التي تشكل اليوم طريقة من طرق فن الرواية الحداثية وما بعد الحداثية. وأشار ياسين النصير إلى أنه سيتخلل كل هذه القضايا والأفكار أهمية الأمكنة في المواصلات والاتصالات والتقنيات الحديثة من تبادل الخبرات وانتشار السلع والطماح الكولونيالي في استعمار الجغرافيا والناس، كما سنجد أنفسنا في مهمة أساسية عندما تكشف طرق الرواية السردية عن ملكيتين مهمتين تشكلان اليوم عصب السرد الروائي: الأولى الملكية للجغرافيا للأرضية بما تمتلكه من خيرات مادية، وغالبًا ما تكون الجغرافيا المادية للأرض بيد الفئات الرأسمالية سلطاتها المهيمنة، والثانية هي طريقة الاستيلاء على الجغرافيا الروحية للناس من خلال الأوهام الدينية، فأي نظام حكم لا يستقر دون أن يكون مالكًا للجغرافيا المادية، وللجغرافيا الروحية للناس، وهو ما يشكل عصب البنية العميقة لطبيعة نظم الحكم في بلدان عديدة من العالم، فالرواية الحديثة تكشف عن ملابسات الحداثة وما بعد الحداثة وعلاقتها بالمجتمع من جهة وبالفن الروائي نفسه من جهة أخرى.

مشاركة :