أتذكر جيداً، عندما حدثني الفنان القدير «شادي الخليج» بأنه في سبيعنات القرن الماضي كانت رغبته في التحول بأسلوب الاحتفالات الوطنية الفنية، والتي كانت تتم عبر تقديم اللوحات الغنائية الوطنية والتراثية من خلال شعراء وملحنين عديدين، ما يفقد العمل الفني الروح الفنية الواحدة المترابطة.وفعلاً، تم تغيير هذا الأسلوب إلى رؤية جديدة، وهو اختيار القصيدة الواحدة وتحويلها إلى لوحات فنية مترابطة متماسكة ولملحن واحد فقط.هذا القرار غيّر مسار نمط الاحتفالات الوطنية التقليدية، إلى أسلوب جديد وعلمي، يعتمد على وحدة فنية واحدة في الشعر واللحن، في علاقة جدلية متسقة، فجعل العمل متماسكاً وناضجاً، وفي العام 1979 تمت هذه الرؤية الجديدة مع الثنائي الرائع الفنان القدير شادي الخليج والموسيقار القدير غنام الديكان بتطبيق هذا الأسلوب وكانت البداية في «مذكرات بحار».حكاية البحر والبحار والإنسان هي محور الإبداع الشعري لمحمد الفايز في مذكراته، وعندما قرر الرائعان شادي الخليج وغنام الديكان، توظيف هذه المادة الشعرية لتصبح عملاً درامياً غنائياً، تم اختيار مجموعة من الصور الشعرية في القصيدة والتي تتناسب مع أسلوب الأعمال الوطنية، بحيث تتسم الصورة الفنية بالفخر والقوة والعزة والشموخ، وبالفعل هذا ما تحقق بالصورة الدرامية الغنائية للعمل. أما القصيدة الأصلية لـ«مذكرات بحار»، فكانت تصف معاناة البحّار أكثر ألماً، بصورة تقدم الإنسان البحار بأنه أتى للبحر قسراً بدافع الحفاظ على بقائه.«قناة القرين» عرضت حلقة من برنامج شبكة التلفزيون لعبدالرحمن النجار في ثمانينيات القرن الماضي، وكان ضيف النجار هو الشاعر محمد الفايز، وبسؤاله عن رأيه في المادة الشعرية التي تم غناؤها في مذكرات بحار، كان رده بأنها ممتازة وأشاد بالألحان والأدء الغنائي، ويتمنى أن يتم تقديمها في السنوات المقبلة أكثر عمقاً.شادي الخليج وسناءحين قام شادي الخليج وسناء الخراز بالغناء في «مذكرات بحار»، كانا بمثابة الراوي الذي يجسد كل المعاني التي عبرت عنها قصيدة محمد الفايز، وكانت الجمل والقوالب اللحنية الموسيقية لغنام الديكان بمثابة رؤية موسيقية إبداعية جسدت القصيدة وفسرتها بمفرداتها موسيقياً تلامس الأحاسيس والمشاعر. وكان للحضور الشامخ الأوبرالي لشادي الخليج في الأداء الغنائي الأثر الكبير في إيصال صورة غنائية معبرة للحدث، وكان الأداء الشجي والحنون لسناء الخراز أعطى أكثر أثراً وجمالاً لـ«مذكرات بحار»، لذلك كل من غنى أغاني المذكرات بعد ذلك، وأنت تستمع له، تستحضر مباشرة معه صوت شادي الخليج وسناء الخراز في كل حرف وجملة وتعبير في الأداء الغنائي، إذ إن أداءهم الغنائي، سكن الأحاسيس والمشاعر بداخلنا. أكثر من رؤية«مذكرات بحار» خرجت إلى الجمهور في مراحل، وكل مرحلة لها رؤية فنية، أولها عند قيام كاتبها الشاعر محمد الفايز بتقديمها من خلال الإلقاء الشعري في إذاعة دولة الكويت في ستينيات القرن الماضي، «والرؤية الثانية» قدمت على مسرح المعاهد الخاصة العام 1979 برؤيتها الفنية الأولى، وكانت عبارة عن لوحات غنائية على خشبة المسرح يصاحبها الأداء الحركي لطلاب وطالبات وزارة التربية. في هذه المرحلة نتوقف عند جزئية مهمة جداً في «مذكرات بحار»، وهي اختيار مقتطفات شعرية من «مذكرات بحار» الأصلية، وهذه المقتطفات الشعرية لا توزاي حجم المادة الشعرية التي كتبها الشاعر في ثماني عشرة مذكرة، تم اختيار مادة شعرية لها معان عميقة ومؤثرة ولها دلالات درامية تم توظيفها بالشكل الصحيح، واستطاع شادي الخليج وغنام الديكان أن يضعا أيديهما على المناطق الشعرية الجميلة لـ«مذكرات بحار»، والتي تتماشي مع رؤيتهما الفنية، لينسجا لنا رائعتهما التي تناقلتها الأجيال في ما بعد. وفي «الرؤية الثالثة» من العام نفسه (1979)، قام محمد السنعوسي بإخراجها لتلفزيون الكويت برؤية فنية عصرية في وقتها، ووضع السنعوسي رؤية تصل لمستوى الإبهار البصري في حينها، وكان هناك مزج بين التصوير الخارجي عند أبراج الكويت للفرقة الموسيقية ويصاحبها غناء شادي الخليج وسناء الخراز. وبين تصوير المشاهد الداخلية في استوديو الدسمة لتصوير اللوحات الغنائية الحركية للمجاميع الطلابية، وفي هذا العمل التلفزيوني أخذت «مذكرات بحار» شهرتها الواسعة على المستويات كافة لتوافر عناصر الإبداع والإبهار فيها من النص الشعري والألحان الموسيقية والأداء الغنائي والإخراج التلفزيوني والأداء الحركي المتقن، وظل هذا العمل في الذاكرة بأنه من الأعمال الإبداعية في تاريخ الحركة الفنية بالكويت.«الرؤية الرابعة» كانت في نهاية ثمانينات القرن الماضي، حين قام تلفزيون الكويت بتصوير حلقات تلفزيونية مع الشاعر محمد الفايز وهو يلقي أشعار «مذكرات بحار» بإحساسه الرائع وصوته الحنون ذي الخشونة وكأنه يعاتب البحر، وهو جالس على الساحل ممسكاً بديوانة ويسرد مذكراته ترافقه الموسيقي التصويرية. نص مسرحيأما «الرؤية الخامسة»، فكانت العام 2014، حين قام الصديق الدكتور يوسف السريع الباحث في تراث الفنون، بالتصدي لإخراج العمل المسرحي «مذكرات بحار»، حيث تم تحويل المادة الشعرية إلى نص مسرحي، من خلال مسرح «المونودراما» مسرح الممثل الواحد، واختار السريع المساحات الشعرية من «مذكرات بحار» التي تنسجم مع الأسلوب المسرحي ورؤيته الإخراجية.وفي «الرؤية السادسة»، التي كانت العام 2017، قدم مركز جابر الأحمد الثقافي الرؤية العصرية رقم (1) في إعادة «مذكرات بحار» من خلال رؤية مسرحية درامية غنائية فنية، وتم توظيف أغنية «حالي حال» التي كتبها د. عبدالله العتيبي، في العمل رغم أن الاغنية ليست في «مذكرات بحار»، ولكن تم توظيفها في منطقة درامية بالعمل، تتماشى مع السياق والحدث الدرامي. في هذه الرؤية، تم استخدام تقنيات مسرحية عالية جداً لتفسير البناء الدرامي للمشروع المسرحي الغنائي، خصوصاً مشاهد تكنيك بناء السفينة في منتصف المسرح، وكان هو المشهد الأكثر إبهاراً. وكان الأداء الحركي المعاصر والشعبي مكثفاً وتم توظيف الحوار الدرامي المسرحي في العمل، ولكن كان الحوار المسرحي لا يوازي المادة الشعرية لناحية نسج الحبكة وقوة المعاني والمفردة الحوارية، رغم مشاركة نخبة من الممثلين ذوي الكفاءة العالية، وكان الممثلون منفصلين عن الأداء الغنائي. رؤية عصريةأما «الرؤية السابعة» في العام 2019، فقدم فيها مركز جابر الأحمد الثقافي الرؤية العصرية رقم (2) لـ«مذكرات بحار»، من خلال رؤية مسرحية تختلف عن الرؤية الأولى التي قدمها في 2017، أكثر تماسكاً وتفسيراً لمحتوى أشعار المذكرات، حيث المساحات الدرامية أخذت أكثر تفصيلاً وكانت الدراما المسرحية من حيث الحبكة والصراع توازي الغناء الشعري بالعمل.تفوقت الرؤية الإخراجية في شرح الكثير من التفاصيل لمحتوى أشعار «مذكرات بحار»، وتم تصميم مشاهد حركية وفانتازية أعطت بعداً مهماً لتعميق الفكرة، خصوصاً في مشهد «حلم عبدالعزيز»، إذ أعطت بعداً مؤثراً للغاية في إيصال عمق فكرة «مذكرات بحار» التي كان يريدها محمد الفايز من خلال تجسيد معاناة الإنسان في أهوال البحر.ربما هذه الرؤية هي الأقدر، والتي فسرت أشعار محمد الفايز بأسلوب مسرحي أكثر وضوحاً ونضجاً، كما استخدم المخرج الكثير من التكنيك، سواء على مستوى الديكور الذي تم تصميمه بشكل تراثي واقعي متحركاً يتم توظيفه للمشاهد المسرحية كافة بكل مرونة وانقسم الى مستويين، المستوى الأول كان لعمق البحر ومشاهد الفريج، والمستوى الثاني كان على ظهر السفينة واسطح المنازل. كما تم توظيف التقنيات التي اعتمدت على رسم وحركة الجرافيك وتقنية البروجكتر لتحريك السفينة. كانت الدراما المسرحية الغنائية بمفهومها العلمي حاضرة بقوة في هذه الرؤية من الأداء التمثيلي والأداء الغنائي، حيث كان الممثل مغنياً والمغني ممثلاً، وصاحب العمل فنون الأداء الحركي المعاصر والشعبي، وانتهت مذكرات بحار درامياً في هذه الرؤية (2019) عند سماع الأم خبر موت ابنها البحار «عبدالعزيز»، وهي الصورة الدرامية الأقرب إلى مضمون ما كتبه محمد الفايز لختام مذكراته، بأنه وصف الإنسان البحار ومعاناته مع وحشة البحر وشقاء العيش وضبابية الاقدار. وبعد ذلك، تفصلنا الرؤية الإخراجية من خلال شاشة المقدمة لتعرض لنا نبذة لصناع هذا المجد الفني لـ«مذكرات بحار»، وهم شادي الخليج وغنام الديكان ومحمد الفايز ومحمد السنعوسي وسناء الخراز، وهي معالجة إخراجية لتفصلنا عن النهاية الدرامية التي انتهت في موت البحار عبدالعزيز بالعمل الفني تمهيداً لتقديم الأغنية الشهيرة لـ«مذكرات بحار» وهي «ها نحن عدنا ننشد الهولو على ظهر السفنية» على إيقاع العرضة البحرية، وينتصف المسرح فيها شامخاً شادي الخليج يؤديها من جديد، كما وقف وأداها قبل 40 عاماً مضت. دراما حوارية وفي الرؤية الفنية الأخيرة لـ«مذكرات بحار» (2019)، تولى الكاتب سعود السنعوسي مهمة كتابة الربط والبناء الدرامي المسرحي بإيجاد فكرة درامية حوارية ليتم ربطها بالعمل الشعري الغنائي لمذكرات بحار، والسؤال هنا... هل نحن نقوم بإيجاد فكرة درامية مسرحية ليتم توظيفها بالعمل الشعري الغنائي؟... أو العكس، بأن يتم توظيف مادة شعرية غنائية للنص المسرحي الدرامي الموجود بالأول، وطبعاً الأصل في المسرح بأن النص المسرحي ذا البناء الدرامي الواضح بحواراته هو المرحلة الأولى في العملية الفنية المسرحية، ومن ثم نقوم بتوظيف الشعر والغناء كمساحات ومناطق محددة ومتسقة مع النص المسرحي، حسب طبيعة مجريات الأحدات، ولكن لا يمنع أن نصنع فكرة مسرحية لتنسجم مع المادة الشعرية، حيث الرؤية الفنية أيضاً هي التي تحدد ذلك، ولذلك الكاتب سعود السنعوسي تفوّق على هذه الإشكالية، بأنه كان أمام مادة شعرية غنائية غنية جاهزة وينبغي أن يبني فكرة مسرحية لها، وكان قادراً على إيجاد فكرة مسرحية وتوظيف الحوار لها مستوحاة من أصل فكرة المادة الشعرية، وكان الحدث الدرامي المسرحي يسير بسياق منسجم ومحبوك ومواز مع الحدث الشعري الغنائي. كانت الأدوات الحرفية للكاتب المسرحي متمكنة وقادرة على إيجاد مادة مسرحية لها علاقة وجدانية مع «مذكرات بحار»، وهذا يحسب للكاتب سعود السنعوسي.هذه المحطات الفنية التي مرت على العمل الفني الخالد «مذكرات بحار» لأكثر من 40 عاماً مضت، وهو يتجدد فينا بين فترة وأخرى. إنه العمل الفني الملهم، الذي نسج للكويت تحفة ثمينة ولوحة فنية نادرة تتناقلها الأجيال.
مشاركة :