المسرح الطليعي.. الخشبة ساحة للتجريب المفتوح

  • 5/12/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: محمدو لحبيب على وقع المصطلح العسكري الفرنسي (Avant-garde)، والذي يمكن ترجمته إلى اللغة العربية بالحارس المتقدم، انبثق تيار الطليعية بشكل عام، ولم يكن في بدايته منحصراً في الفن بشكل عام أو المسرح بشكل خاص، بل كانت له حمولته السياسية والأيديولوجية. كما يقول كريستوفر آينز في كتابه «المسرح الطليعي» والذي ترجمه سامح فكري، فالمصطلح العسكري الآنف الذكر تمت استعارته لأول مرة من طرف مؤسس المدرسة الفوضوية وأبرز فلاسفتها الروسي ميخائيل باكونين؛ حيث جعله عنواناً لجريدة لم تستمر طويلًا، وتميزت بنزعة فوضوية، وقام بنشرها في سويسرا عام 1878 وهي جريدة «لافان جارد»، ولم يستخدم المصطلح في الإشارة للفن إلا على يد مريدي باكونين وتلاميذه. وربما انطلاقاً من تلك البداية التي اقترنت بطريقة ما بالراديكالية، أصبح الفن الطليعي بعد ذلك وحتى الآن مرتبطاً بثورة على المألوف وعلى التقليدي والقديم، ويقف موقف العداء من التقاليد الفنية سواء ارتبطت هذه التقاليد بالأجيال السابقة، أو ارتبطت بالحضارة المعاصرة ذاتها. إن توجهات الفن الطليعي بشكل عام تبدو من الخارج وكأنها اجتمعت على رفض المؤسسات الاجتماعية والمواضعات الفنية الراسخة. التجريب في كل شيء، وتحطيم النظريات السابقة عن طريق الخروج منها بأشياء مختلفة وجديدة، هو ديدن كل المشتغلين بالمسرح الطليعي منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم. وبسبب الربط الآنف الذكر بين السياسي والفني في المفهوم الطليعي، كان من الصعوبة بمكان على معظم النقاد والباحثين في تاريخ الفن المسرحي الطليعي فصله عن بقية الأنماط الفكرية التي تمثل تجليات للفكرة الطليعية، لكن ثمة تجارب مسرحية تؤكد النمط الطليعي، وتحدد ملامحه أكثر من غيرها. ولعل الأبرز في هذا المجال في واقعنا المعاصر هو تجربة مسرح الشمس في فرنسا، والذي أسسته الفرنسية- الروسية آريان مونوشكين. فمن قلب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وفي أكسفورد وجامعتها العريقة، حين أرسلها والدها إلى هناك لإكمال دراستها والتمكّن من اللغة الإنجليزية، انبهرت مونوشكين بالتجارب المسرحية الممتازة في الجامعة، والتي لم تكن توجد في الجامعات الفرنسية آنذاك. وبعد اتقاد الشعلة المسرحية عندها، تأثرت مونوشكين في تكوينها المسرحي بطريقة قراءة كل من البولندي ييجي غروتوفسكي، والإنجليزي بيتر بروك للنص المسرحي؛ حيث يعمل الأول من خلال فكرته الفريدة المسماة «المعمل المسرحي» على إنتاج النص ضمن شروط تركز على تهشيمه وإعادة بنائه، وفق أساس التماهي مع الواقع المسرحي الذي يريده، في حين يضيف الثاني للنص بعداً متجدداً مهووساً بالبحث عن الحياة نفسها، حين يسعى إلى جعل المسرح ليس جزءاً من الحياة فقط، بل هو الحياة كلها، كما تأثرت مونوشكين بالمسرح الملحمي عند بريخت، وطريقته في تكسير الجدار الرابع، والالتحام بالجمهور، وفتح المجال أمام الممثل والمتفرج لإقامة علاقة تفاعلية بينهما. كل تلك الروافد المسرحية قادت مونوشكين سنة 1964 م، لتأسيس مسرح الشمس، والذي يشكل نموذجاً طليعياً متفرداً لا في فرنسا وحدها، بل في العالم كله؛ حيث يجسد بحسب مونوشكين مسرحاً يهدف إلى تحرير الواقع الاجتماعي من كل أشكال الارتهان للمألوف المؤدي إلى الجمود والعبودية، متأثراً في ذلك بالأجواء الثقافية والفكرية التي تلت الحرب العالمية الثانية في فرنسا. إن تجربة مسرح الشمس الطليعي ليست الوحيدة وإن كانت الأبرز والأكثر وضوحاً في تبيين طبيعة المسرح الطليعي، بشكل متجرد من بقية تبعات المفهوم السياسية والفكرية الأخرى، ويمكن القول إن مذهب الطليعية في المسرح هو انحياز دائم للتجريب وللنضال من أجل تحرير كل عناصر العرض المسرحي من ربقة التقليدي والجامد الذي يحصرها في مناطق مألوفة وتم تكرارها آلاف المرات. إن ميزة المسرح الطليعي الأبرز في العالم كله، وفي عالمنا العربي هو قدرته على إحداث الدهشة، وتفعيل مفهوم الفرجة الملازم كما هو معروف للمسرح بشكل عام. فعن طريق تغيير مكان العرض من أجواء العلبة الإيطالية، وتحويله إلى أماكن عادية كالملاعب أو المساحات الأخرى المفتوحة، أو عن طريق التعامل مع النصوص الكلاسيكية وأمهات المسرح العالمي، عن طريق تقديمها بشكل يتدخل في عمق فكرتها، ويحولها، ويضيف إلى إسقاطات ومشاهد معاصرة وآنية، وعن طريق التحكم في السينوغرافيا، والإضاءة و الصوت، بحيث لا تبدو مطلقاً على شكل رتيب ومنتظم، عن طريق كل ذلك يكتسب المسرح الطليعي متعته وحضوره وأهميته.

مشاركة :