ربما يعد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب من الرؤساء الأمريكيين القلائل، الذين أثاروا جدلا واسع النطاق، بشأن تأثير سياساته الاقتصادية وتغريداته المتواصلة في الاقتصاد الأمريكي، ومعدلات نموه ومستقبله. الاقتصاد الأمريكي لم يزدهر في عهد الإدارة السابقة، ورغم أن الرئيس باراك أوباما ورث - بلا شك - تركة اقتصادية ثقيلة من الرئيس جورج بوش الابن، الذي شهدت الأشهر الأخيرة من ولايته هزة اقتصادية تجاوزت الاقتصاد الأمريكي إلى الاقتصاد العالمي، فإن التدابير التي اتخذتها إدارة أوباما، ساعدت على عدم تفاقم الأزمة الاقتصادية، لكنها لم تفلح في إخراج الاقتصاد الأمريكي من مأزقه. خصوم الرئيس ترمب من جانبهم يعدون الوضع الإيجابي للاقتصاد الأمريكي في الوقت الراهن لا علاقة له بسياسات الرئيس وتغريداته، وبغض النظر عن تلك القناعات من عدمها، وما إذا كانت ترتبط بموقف أيديولوجي من الرئيس ورؤيته الاقتصادية وتكريسها مبدأ "أمريكا أولا"، فإنها بالنسبة إلى أنصار الرئيس لا تعكس تحليلا قائما على معايير اقتصادية، فبلغة الأرقام التي يصعب إنكارها يحقق الاقتصاد الأمريكي نجاحات ومعدلات نمو مرتفعة، يصعب إنكار فضل سياسات ترمب في تحقيقها. لكن تأثير سياسات الرئيس وتغريداته لا تقف حدودها بالطبع عند الولايات المتحدة، بل تمتد إلى الاقتصاد العالمي، وهنا تبدو القصة مختلفة تماما، فكثير من الاقتصاديين يحملون ترمب ومواقفه - التي يصفها البعض بالمتشددة من الصين، التي قادت الطرفين إلى حرب تجارية - مسؤولية الوضع المتراجع للاقتصاد الدولي. "الاقتصادية" استطلعت آراء عدد من الاقتصاديين والمختصين، حول تأثير سياسات الرئيس الأمريكي وتغريداته في الاقتصاد الأمريكي والعالمي، في مسعى لرسم صورة متكاملة لتأثير تلك السياسات في الوقت الراهن والسنوات المقبلة. ويرى البروفيسور جوردان هارت أحد المستشارين الاقتصاديين السابقين لرئيس الوزراء جون ميجور أن "الرئيس ترمب معني أكثر بالاقتصاد الأمريكي ونموه، ولا يعنيه كثيرا تأثير سياساته أو تغريداته في الاقتصاد العالمي، ففي نهاية المطاف هو رئيس منتخب من الشعب الأمريكي، وعليه تحقيق مصالح أمته، لكن نظرا إلى الدور الذي تطلع به الولايات المتحدة اقتصاديا وسياسيا على المستوى العالمي، فإن الرئيس ومستشارية يجب أن يكونوا أكثر استعدادا لتقديم بعض التنازلات الاقتصادية الأمريكية لنهضة الاقتصاد الدولي ككل. ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن الاقتصاد الأمريكي يتسارع نموه، بينما تبدو الاقتصادات العالمية الكبرى مثل الصين في حالة تراجع، والاتحاد الأوروبي واليابان في حالة من الحيادية الاقتصادية، وعلينا أن نتذكر أن العام الأخير من إدارة أوباما كان يكشف عن علامات لا لبس فيها من التباطؤ الاقتصادي، فالناتج المحلي الإجمالي كان في انخفاض في الربعين الأخيرين في عهد أوباما، وسوق الأسهم كانت ثابتة في آخر عام، ومعدل البطالة خاصة داخل الأسر الأمريكية المتوسطة كان ثابتا. المشهد تغير في عهد ترمب بشكل واضح للغاية". ويضيف "حتى الآن يصعب الجزم بشكل قاطع بأن سياسة ترمب تتحمل بمفردها مسؤولية تباطؤ نمو الاقتصاد الدولي، فالبعض يرى أن الحرب التجارية مع الصين تتحمل المسؤولية، لكن تراجع الاقتصاد الصيني كان سابقا لحرب ترمب التجارية، ربما عززت ضغوط الرئيس الأمريكي الاقتصادية على الصين والاتحاد الأوروبي من تراجع الاقتصادي العالمي، إلا أنها لم تكن السبب في تلك الظاهرة". على النقيض تماما تتبنى الدكتورة دورثي مايلز أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة كامبريدج، وعضو حزب العمال البريطاني وجهة نظر مختلفة، إذ ترى أن التكلفة الاجتماعية للنمو الاقتصادي الراهن في الولايات المتحدة، ذات تأثيرات سلبية في الدخل الأمريكي مستقبلا. وتؤكد لـ"الاقتصادية"، أن السياسات الضريبية التي تبناها الرئيس، مثلت انحيازا كبيرا لمصلحة الرأسمالية الكبيرة في الاقتصاد الأمريكي، وهذا أوجد خللا ملحوظا في توزيع الثروة الوطنية، وسيتفاقم هذا الاتجاه مع مرور الوقت، ويوجد فجوات اجتماعية ضخمة، ستتطلب تدابير حكومية في مجال الميزانية العامة لمحاولة سد تلك الثغرات مستقبلا، بما يعنيه ذلك من زيادة العجز في الميزانية. وتقول "العجز المالي الحالي لا يزال من الممكن السيطرة عليه، لأن الخفض الضريبي أسهم في توسيع الشركات الكبرى نشاطاتها الاقتصادية، ومن ثم خفض معدلات البطالة، وزاد ذلك من الإنفاق الاستهلاكي في المجتمع، وترجم ذلك كله في معدلات نمو تقارب وربما تتجاوز 3.5 في المائة، وهي معدلات مرتفعة في الاقتصاد الأمريكي، لكن عندما تتآكل قوة الدفع الناجمة عن التخفيضات الضريبية، ويدخل الاقتصاد الكلي في الدورة الطبيعية للركود الاقتصادي، فإن الاقتصاد الأمريكي سيشهد أوضاعا صعبة، خاصة مع تصاعد الدين العام بمعدلات غير مسبوقة، فالدين العام تجاوز حدود 22 تريليون دولار، بحيث إن سياسات الرئيس الاقتصادية حملت الاقتصاد الأمريكي نحو تريليوني دولار إضافي إلى الدين العام". وحول الاقتصاد العالمي تلقي الدكتورة دورثي باللائمة على الإدارة الأمريكية في الأوضاع غير المستقرة في الاقتصاد الدولي، وما تصفه بالتغريدات الانفعالية للرئيس وروح العقاب التي تهيمن على قراراته. وتضيف "انقض الرئيس ترمب على ميراث عالمي من الحرية التجارية، وإذا كان جزء من انتقادات الرئيس لمنظومة التجارة الدولية الحالية صحيحا عندما وصفها بعدم العدالة، إلا أن أسلوب العلاج لم يكن صائبا، إذ يسعى إلى القضاء التام على حرية التجارة الدولية، أو إجبار الآخرين على تبني وجهة نظره، والنتيجة زيادة حالة عدم اليقين في الاقتصاد العالمي، وسيتراجع النمو الاقتصادي الدولي من 3.6 في المائة عام 2018 إلى 3.3 في المائة العام الجاري". من جانبه يصف روبرت ويلزي المختص الاستثماري في صندوق التحوط "المجموعة الاستثمارية"، إنجاز الرئيس ترمب الاقتصادي بالمعجزة الاقتصادية، ويعلق قائلا "التيارات اليسارية الدولية تدعي أن نمو الاقتصاد الأمريكي يعود إلى عوامل خارج سيطرة الرئيس مثل أسعار الفائدة التي يحددها المجلس الفيدرالي الأمريكي وهو يتمتع باستقلالية عن الرئيس أو منظومة الابتكار والتكنولوجيا، وتلك تتحكم فيها مؤسسات اقتصادية سابقة لوصول ترمب إلى السلطة مثل شركة أبل مثلا، وجميعها محاولات يائسة لشرح الطفرة الحالية في الاقتصاد الأمريكي وإنكار علاقة ترمب بها". ويضيف "في الحقيقة أطلقت رؤية ترمب الاقتصادية وتغريداته مشاعر عارمة في أوساط المستثمرين الأمريكيين بالتفاؤل التام تجاه المستقبل، وتجلى ذلك في تشريعات ضريبية جاذبة للاستثمارات الضخمة، فارتفعت أسعار الأسهم الأمريكية وحققت مكاسب تاريخية، ومؤشر داو جونز يقترب من 21000 نقطة وهو مستوى بدا مستحيلا خلال فترة أوباما، وارتفعت المؤشرات الأخرى أيضا، وعززت تغريدات الرئيس بطابعها المباشر والبسيط من تلك المشاعر، كما أن ضخ مليارات لإصلاح البنية الأساسية، أسهم بشكل كبير في تعزيز معدلات التوظيف، كما أن نمو قوة الدولار الأمريكي عزز جاذبية الاقتصاد الأمريكي، عبر جذب رؤوس الأموال الدولية للمصارف الأمريكية وصناديق التحوط". ويعدّ روبرت ويلزي، إقدام الرئيس ترمب على الدخول في حرب تجارية مع الصين، يعود إلى إدراكه قوة الاقتصاد الأمريكي، وقدرته على مواجهه الصين، إذ إن الصادرات الأمريكية إلى الصين لا تتجاوز 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ويتفق مور ليفي الاستشاري في صندوق النقد الدولي إلى حد كبير مع الآراء الرافضة لتحميل الحرب التجارية الأمريكية مع الصين مسؤولية تباطؤ الاقتصاد العالمي، أو أن تغريدات الرئيس ترمب تسهم في زيادة الوضع سوءا. ويقول لـ"الاقتصادية"، "بالطبع التغريدات الرئاسية أسلوب غير نمطي أو مسبوق بتلك الكثافة في السياسة الدولية، لكن الرئيس لم يكشف شيئا مفاجئا في تلك التغريدات، وأغلبها تأكيد لم يسبق أن تعهد به". ويؤكد أن التعريفات الأمريكية تغطي الآن أكثر من نصف صادرات الصين إلى الولايات المتحدة، وتلك الصادرات تمثل أقل من 2 في المائة من الاستهلاك الشخصي الأمريكي، ونحو 5 في المائة من الاستثمارات التجارية الأمريكية، ومن ثم انعكاسها على الاقتصاد الأمريكي، ولن يكون بالضخامة التي يشير إليها البعض. ويعتقد مور ليفي أن تباطؤ الاقتصاد العالمي لا يعود إلى الحرب التجارية، إنما إلى عدم اليقين الشديد في السياسات الاقتصادية الدولية، وضعف احتمالات الطلب العالمي، وانخفاض الإنتاج الصناعي خاصة في الاقتصادات المتقدمة، كما أن النزاع الجغرافي السياسي في الشرق الأوسط، والتوترات في شرق آسيا، جميعها ترفع حالة عدم اليقين في السياسة التجارية، وسط مخاوف من التصعيد والانتقام، ما يقلل من الاستثمار في الأعمال التجارية ويعطل سلسلة التوريد ويبطئ نمو الإنتاجية. وتحميل إدارة الرئيس ترمب وتغريداته مسؤولية الأوضاع الراهنة في الاقتصاد العالمي، أمر مبالغ فيه من وجهة نظر مور ليفي، متسائلا "فلماذا تحمل الإدارة الأمريكية الوضع الاقتصادي المضطرب في إيرلندا نتيجة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو التآكل الاقتصادي لجنوب إفريقيا جراء سياسات إصلاح الأراضي المثيرة للجدل؟".
مشاركة :