يلح على العالم مجددا البحث عن بديل للإسلام السياسي بعد اتجاه دول عديدة لتصنيف جماعة الإخوان كمنظمة إرهابية، في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، وفقدان الثقة في مجمل فصائل هذا التيار، وتتجه الأنظار كالعادة تلقائيا إلى الصوفية التي تحتاج إلى جملة من الإصلاحات لتنجح في مجابهة التحديات. تتراجع نسخة الإسلام السياسي نتيجة ما سببته من تدمير وعنف وإرهاب وبث للكراهية والانقسام داخل المجتمعات وبين الشعوب المختلفة، وحتى لا تعود مستقبلا إلى سابق قوتها ونفوذها عبر اللعب على المتناقضات واستغلال مصالح بعض القوى، لا بد من ملء الفراغ بنسخة متسامحة وعقلانية. وبدأت نماذج الإسلام المتسامح في إندونيسيا القائم على ثوابت من الصوفية الأصيلة تحظى باهتمام دوائر غربية كثيرة، وتجد رواجا لدى البعض من السياسيين، باعتبارها القادرة على مواجهة الحركات المتشددة، وهو ما وفر لها رعاية من قبل بعض الحكومات التي تعاني من ويلات المتطرفين. تحظى الصوفية بشعبية جماهيرية وحضور واسع، وتعتنق جوهر الدين الذي يدعو للسلام الإنساني والمحبة بين البشر، وتحمل تصورات الإسلام كدين متسامح ينبذ العنف ويقبل من خلال قيمه ومقاصده مبادئ الحرية وحقوق الإنسان، ولا يتعارض مع كل تطور يمكن أن يحقق الخير للإنسانية. وتمتلك ما يؤهلها لوقف التشدد وإخراج دول كثيرة من دائرة العنف الديني، عبر إلهام الشعوب في أن تعثر على سلامها الروحي دون الوقوع في فخ جماعات توظف الدين لمصالح سياسية. وأثبتت الصوفية أنها قوة إسلامية كبرى، ليس فقط من جهة تعداد المريدين الهائل لها، إنما من جهة تمثيلها وتعبيرها عن الدين الشعبي العام الكامن في قلوب غالبية المسلمين. في الصوفية وبها يمكن الوصول لمستويات عليا من العبادة وفيها وبها من يعبر عن قربه من الله حتى وهو يرتكب ما يعتبره البعض مخالفات شرعية، كرقص امرأة في مولد صوفي على نغمات موسيقى الذكر، أو كتدخين رجل أثناء حلقة ذكر صوفي. وتتجاوز الصوفية الاختلافات التي تفرضها شرائع الأديان، ولا تنظر إليها بوصفها نهاية المطاف من الدين والتدين، فشعارها ليس الحديث باسم الله، بل الحديث معه والإشارة إليه، أما هو فلم يوكل أحدا للحديث باسمه فقد تحدث عن نفسه بنفسه كونه أوسع وألطف وأكثر رحابة من الأيديولوجيات والفرق. وأن يكون المرء صوفيا يعني الترفع عن العنصرية والخصومات المذهبية والاستعلاء باسم الدين، فلا يرفع شعار نحن على الحق وسوانا على الباطل الذي أدمى به الإسلام السياسي فكرة الإخاء والتماسك المجتمعي، بل يسعى إلى الجميع أيا كان معتقده وانتماؤه قائلا “تعال تعال، لا يهم من أنت ولماذا أتيت”، فالإنسانية جميعا شركاء في القرب الإلهي. يتسامح الصوفي مع مختلف الأديان والعقائد والأفكار فهو “كالأرض يطؤها البار والفاجر وكالسحاب يظلل كل شيء وكالمطر يسقي كل شيء”، ويدين بدين الحب لكل البشر، وهذا ما يريده العالم الآن للخلاص من نموذج الإخواني والداعشي الذي نشر في الأرض الكراهية والأحقاد باسم الدين. لدى الصوفية فعليا المناهج والمقومات التي ترشحها للقيام بأدوار مهمة في مواجهة التطرف وأن تحتل مكان جماعات الإسلام الحركي المسيّسة في الفضاء الديني، وتمتلك القناعات التي تستند لتأويلات عميقة لنصوص قرآنية من شأنها نزع الكراهية من بين الشعوب مهما اختلفت مللها وأن تنشر المحبة والسلام وتحقق التعايش المفقود بين البشر. الصوفية على عكس الإسلام السياسي هي دعوات حارة إلى الإبقاء على النوع الإنساني وصونه وتحذيرات من هدم البنيان الإنساني، لأن هدمه قضاء على أكمل صورة لله في الوجود، فالصوفي يشفق على الإنسان مهما كان معتقده ويسعى بكل ما يملك لصون حياته وممتلكاته ودمه، فاحترامه وتوقيره من احترام الخالق الذي أوجده ومن استهان به فقد استهان بالله. الصوفية ليست فقط قادرة على أن تحتل مكان الإسلام السياسي، لكن لديها ملكات وميزات تمنحها القدرة إذا ذاع نفوذها على العمل كحائط صد مانع لحضور الأصولية المتطرفة. علمت الصوفية على سبيل المثال قطاعا كبيرا من أهالي دمشق وبغداد والقاهرة أن الله موجود في كل مكان وعلى المؤمنين أن يحبوه أكثر من مخافته، وبسبب الإرث الصوفي لم تنجب هذه المدن شخصيات أصولية كثيرة في العصر الحديث. وعلى الرغم من العدة المنهجية المتماسكة لا تمتلك الصوفية الرؤية الواقعية التي تمكنها من ترجمة برامجها وقناعاتها ورؤاها الحقيقية. وكي تصبح المفاهيم الصوفية متاحة في مسار واقع عملي قابل للتطبيق، وصولا لمستوى صناعة البديل الذي يملأ فراغ جماعات الإسلام السياسي، هناك الكثير مما ينبغي عمله والقيام به لتشتبك تعاليم ورؤى الصوفية مع الواقع وتخرج أفكارها عن الدين والإنسان والعالم إلى الحياة، بدلا من حبسها داخل حالة تبدو كأنها صنعت لمجموعات منعزلة عن الناس وعن الشأن العام وهمومه وقضاياه. ومن الثوابت أن معرفة الصوفي لذاته، من حيث هو إنسان، ركن رئيسي في التجربة الصوفية وهي ركيزة كل معرفة؛ فالمتفق عليه وفق الأدبيات الصوفية أن الإنسان أنموذج لكل العالم وهو المعبر الرئيسي لمعرفة الله، ولذا استغرق التنظير الصوفي استقراء صفات الإنسان وتفسير سلوكه وتشخيص مواطن الخلل فيه، ومن ثم تصور البدائل العلاجية الممكنة التي تصوب مساره وتحقق خلاصه وقربه من الله. منهج ومقومات المطلب الرئيسي هو ضرورة المزاوجة بين الطابع الفردي الذي تتميز به الصوفية بالطابع المجتمعي الجماعي الذي تفتقده؛ بمعنى تطوير الصوفية من مجرد حركة ترتد على الذات لإصلاحها وتقويمها بحثا عن سبل النجاة الفردية، إلى حركة إصلاحية تؤثر في الواقع المعاش باتجاه العودة إلى القيم النبيلة والمثل العليا، دون طلب دنيوي من سلطة أو جاه إنما انطلاقا من محبة الإنسانية والأوطان وسعيا متجردا في إصلاحها. ويقتضي هذا ترسيخ الاستقلال الذاتي للفرد الصوفي وترشيد تبعيته لشيخه وتياره، مع الاجتهاد في الموازنة بين سعيه ليصبح مؤمنا قوي الإيمان، وعمله ونضاله اليومي الحياتي الذي يصب في تنمية مجتمعه. كما يتطلب إنهاء الفصل بين المعرفة الدينية والمعرفة العلمية المعاصرة، فالأولى مطلوبة للسمو الروحي للفرد ولتنمية علاقة الإنسان بربه، والثانية مطلوبة للإسهام في النهضة والرقي والازدهار المجتمعي. ويحرص عدد غير قليل من الصوفية على عدم الخوض في مواجدهم وعلومهم مع من لا ينتمي إلى فئتهم ويميلون لاستخدام لغة الإشارة والترميز، لدرجة أن معاني محاوراتهم مبهمة على من سواهم، كما أن الكتابة الصوفية مشحونة بالغرابة والانفجار الروحي، كما لو كان الصوفي يكتب لنفسه ويؤسس خطابا خاصا به. وألحت بعض أدبيات الصوفية على اتباع نهج الكتمان بشكل يُفهم منه أنه تيار منعزل عن بقية المجتمع أو متعال بما مُنح من فتوحات دينية لم تُؤت للعامة من الناس. بجانب تقسيمهم لمراتب البشرية بين عامة وخاصة، وخاصة الخاصة، كنموذج ما طرحه أبوحامد الغزالي في قوله “أسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب، فقد قال العارفون إن إفشاء سر العبودية كفر”. ولتتأهل الصوفية للقيام بمهمتها ينبغي تطوير أدبياتها وأن تتحول من مجرد تيار يعيش لنفسه ولترقية أفراده روحيا ليصبحوا متميزين في هذا الجانب عن عموم الناس، إلى تيار منفتح خادم للمجتمع ومسهم في نهضته. وكما تضخ الجامعات العلمية مفكرين وعلماء في تخصصات مختلفة تقوم بدورها في تقدم البلاد، ينبغي أن تقوم الصوفية بتنمية قدرات الفرد الروحية والفكرية والأخلاقية ليصبح عنصرا فاعلا وموثوقا به في المجتمع، بدلا من أن تستقطب أفرادا وتعزلهم عن المجتمع دون دور مجتمعي، وكل ما هنالك أنهم يحققون لأنفسهم مستويات معينة من الورع والسمو الروحي. وتتحدث العديد من مراجع الصوفية عن امتلاك بعض المتصوفة في مراحل معينة قدرات خارقة للعادة والمألوف تفوق ما يتوفر لدى الإنسان العادي من طي المسافات واختصار الأزمنة، ونموذج ذلك ما قاله عبدالكريم الجيلي “الإنسان إذا كان الأغلب عليه الأمور الروحانية من دوام الفكر الصحيح وإقلال الطعام والمنام والكلام وترك الأمور التي تقتضيها البشرية فإن هيكله يكتسب اللطف الروحي فيخطو على الماء ويطير في الهواء ولا تحجبه الجدران ولا يقصيه بعد البلدان فيصير في أعلى مراتب المخلوقات”. بينما دور الصوفية الحضاري هو العكس تماما من ذلك؛ بمعنى أن المطلوب هو ترقية الفرد الصوفي أخلاقيا لا ليطير في الهواء ويحلق في خيال الغيبيات، بل ليسير على الأرض ليسهم في إصلاح الواقع، وبذلك تقدم الصوفية للمجتمع أفرادا مبدعين فاعلين ومساهمين في النهضة، ومدركين لأدوارهم في مسيرة الاستخلاف الإلهي للبشر في الأرض بقصد عمرانها وازدهارها. الصبغة السياسيةما يدعو إليه البعض من صبغ الصوفية بالصبغة العلمية والحد من الممارسات المصاحبة لموالد الأولياء، وتكثيف تحصيل العلوم الشرعية بما يعرف بمجهودات تسنين التصوف، ليس شرطا لبلوغ الهدف المطلوب بل قد يؤدي تعميمه لفقدان الصوفية لهويتها وصرفها نحو التسلف. لا مانع من أن تكون هناك نخب علمية ومراجع فكرية لا تكون مهمتها نقل الصوفية بالكامل من حال إلى حال خال من البدع والدروشة كما يتصور البعض، إنما لترشيد الخطاب الصوفي وتوجيه طاقات الصوفية وتجلياتها الروحية إلى إصلاح الواقع والنهوض به، لكن دون المس بالتقاليد الصوفية الشعبية التي تمثل الجانب الاحتفالي والفلكلوري، وهو الذي يجتذب الملايين من البشر وهو رأسمال الصوفية الأقوى. وذهب البعض من الباحثين إلى أن الصوفية لا تصلح لمنافسة الإسلام الحركي لأنها تقدم الخير والدعم للفقراء والتعبد دون النظر للمكسب السياسي، بينما هذا هو عين المراد والمطلوب. ولا يصح أن تنبثق من التيار الصوفي أذرع سياسية تمثله كما حدث في مصر بعد ثورة يناير 2011، فرهان نجاح الصوفية كحركة إصلاحية متوقف على بقائها كتيار اجتماعي مستقل غير قابل للتوظيف السياسي، وغير ساع لتسييس الدين واستغلاله لمكاسب سياسية من داخله. ويهدف هذا التصور لخلق تكاملية متزنة بين الأمانة والضمير اليقظ والأخلاقية المتقدة من جهة، والخبرات والكفاءات السياسية والاقتصادية من جهة ثانية، بمعنى أنه ليس هناك مانع من أن يمارس الصوفي السياسة إذا كانت لديه الخبرة والكفاءة اللازمة، لكن ليس ممثلا عن الصوفية إنما عن نفسه داخل أحزاب ليبرالية خالصة لا علاقة لها بعناوين ومرجعيات دينية، لأن هناك سمات مشتركة بين الصوفية والليبرالية كاحترام التعددية والحريات الفردية. وبذلك يُحفظ للدين قدسيته وخصوصيته فلا يتلوث بألاعيب السياسة وتتحقق التكاملية القائمة على احترام التخصص والخبرة، مع الاستفادة من أدوار التيار الصوفي في التربية وتهذيب النفس والسلوك الشخصي والتثقيف وإيقاظ الوعي العام وتغذية الروح والفكر. وتسقط بذلك الفرضية التي يروج لها قادة الجماعات المتطرفة، والتي تزعم أن الإسلام السياسي متميز عن الإسلام الصوفي لكونه مستقلا عن الحكومات والأنظمة وليس تابعا لها، وهنا تكمن أهمية الاستقلالية والتخصص وعدم الارتباط بتجربة سياسية؛ كي لا تترسخ مزاعم كون الصوفية تابعة للأنظمة وأنها حركة تسعى هي الأخرى لتسييس الدين وتوظيفه لأغراض محددة. كما سيؤهل ذلك الصوفية لاحتلال مكانها الذي تستحقه بما تمتلكه من فهم متميز ومتطور لتعاليم الدين وفروضه، كونها تستمد قوتها وحضورها من مقوماتها الذاتية وليس من حماية أو دعم الحكومات والأنظمة السياسية لها. ولتتمكن الصوفية من أن تحل محل الإسلام السياسي الذي استنفد أغراضه وثبت فشله وكارثية ما يحمله من تصورات وقناعات، ينبغي ترشيد خطاب الصوفية وتطوير أدائها، حتى تصبح مشروع أمة ومجتمع لا مشروعا خاصا بحركة أو تيار. ويتطلب ذلك التأسيس على النزعة الذاتية بتطويرها وصب ثمرتها في الحالة الجماعية للإسهام في نهضتها، وملء المسارات والمواقع وفقا للتخصصية الناجزة، فلا يكون مؤهل أحدهم لاحتلال منصب أو مركز سياسي أو حزبي أو اقتصادي هو مجرد ورعه واستقامته الدينية. وفي هذه الحالة سيكون تجميع الأفراد داخل المكون الصوفي ليس لغرض لتعزيز الفردية أو لخدمة جماعة، إنما لخدمة المجتمع ونهضة الأمة أينما كانت في الشرق أو الغرب.
مشاركة :