في خضم المواقف الدولية الرافضة لأعمال التنقيب التركية غير القانونية عن الغاز قرب السواحل القبرصية، قررت أنقرة أن تجري مناورات بحرية ضخمة، تحمل اسم “ذئب البحر 2019“، في خطوة تكشف حالة إفلاس السياسة التركية التي تم تهميشها في الترتيبات الإقليمية الجديدة. أطلق الجيش التركي، الاثنين 13 مايو، ما يقول إنها “أكبر مناورة عسكرية” للبحرية التركية، تجري في البحار الثلاثة التي تحيط بالبلاد. وتجري التدريبات في البحر المتوسط وبحر إيجه والبحر الأسود، ومن المقرر أن تنتهي في 25 مايو. وتضم 131 سفينة عسكرية و57 طائرة و33 مروحية، بحسب قيادة الجيش التركي. وتجري المناورات على المستوى الاستراتيجي والعملياتي “استنادا إلى سيناريوهات مستوحاة من فترات الأزمات والتوترات والحروب”. وتهدف إلى “رفع مستوى الجاهزية العملياتية للقطع البحرية والجوية التابعة لقيادة القوات البحرية التركية”. وتزيد أنقرة عبر هذه المناورات منسوب التوتر في المتوسط من خلال إصرارها على استفزاز الأطراف الدولية التي حذرتها في وقت سابق من مغبّة التنقيب عن الغاز الطبيعي في المياه القبرصية. وكان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أعربا عن “قلقهما” من نية أنقرة إطلاق عمليات تنقيب في “المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص”. لكن أنقرة تجاهلت هذه التحذيرات، مؤكدة أنها غير مُلزمة باتفاقات ترسيم الحدود البحرية الموقّعة بين الحكومة المعترف بها دوليا في قبرص والدول الأخرى المشاطئة للبحر المتوسط. مع ذلك لا يتوقّع مراقبون أن مضي تركيا في تحدي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سيتيح لها استمرار أعمال التنقيب وإرسال السفن، بل إن إجراءات عقابية محتملة بانتظار تركيا ردا على تلك الأعمال. تتشابه مناورات “ذئب البحر 2019″ مع مناورات مماثلة أجرتها أنقرة في البحار الثلاثة المحيطة بها في فبراير الماضي. وهي مؤشر واضح على مساعي تركيا المستمرة في تحديث وتوسيع قوتها البحرية، وتنامي إنفاقها العسكري رغم مصاعبها الاقتصادية الخانقة. وتشير تقديرات معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام إلى أن أنقرة ستزيد قوتها البحرية بحلول عام 2023، بحوالي 24 سفينة جديدة، بما في ذلك أربع فرقاطات. وقد بلغت ميزانية الدفاع التركية في عام 2018 حوالي 19 مليار دولار، بزيادة قدرها 24 بالمئة مقارنة بالعام الماضي.وتكشف مناورات “ذئب البحر” عزم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاستمرار في التنقيب عن الغاز شرقي المتوسط متجاهلا التحذيرات الدولية. ومما يؤكد ذلك إعلان وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو، أن أنقرة ستبدأ -خلال الأيام المقبلة- الحفر بسفينتين في منطقة بحرية حول قبرص. وذكرت صحيفة ياني شفق التركية أن أنقرة تجري محادثات مع عدة دول لضمها لمناورات “درع البحر المتوسط”، وهي المناورات التي يجريها الجيش التركي منذ عام 2006 مع بعض الدول أجنبية لمواجهة تهديدات الأمن البحري. وقالت الصحيفة إن تركيا تعتزم توقيع مذكرات تفاهم مع ألبانيا وأذربيجان والجزائر وجورجيا وليبيا ولبنان وباكستان وتونس والأردن لإدراجها في هذه المناورات. وسبق أن قامت تركيا بتدريبات عسكرية مماثلة في البحر الأسود. يبدو أن وراء مناورات “ذئب البحر” ورغبة أنقرة في عسكرة شرق المتوسط دوافع أعمق مما تدعيه تركيا من حماية حقوق القبارصة الأتراك. فهذه المناورات هي بمثابة الرد التركي على تهميش أنقرة إقليميا في الترتيبات الإقليمية الجديدة التي تسارعت منذ بداية العام الجاري من أجل تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي بين دول منطقة شرق المتوسط لتعظيم الاستفادة من الاكتشافات الهائلة من الغاز الطبيعي في المنطقة، وهذا التعاون ذو أبعاد سياسية يهدف أساسا إلى مواجهة خطط تركيا ودورها التخريبي في المنطقة. غابت أنقرة عن الاكتشافات الهائلة من الغاز الطبيعي التي توالت مع مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. وتحوّلت هذه الاكتشافات إلى حقول بات يُعرف منها حقل أفروديت في قبرص، وتامارا وليفاثيان في إسرائيل، وظهر، وهو أكبر الحقول، في مصر. وهناك على السواحل الفلسطينية في قطاع غزة، وتلك اللبنانية ما يبشّر بوجود حقول مماثلة. أنقرة، من جانبها، استثنت نفسها من هذه التطورات الإيجابية لأنها تصر ببساطة على عدم الالتزام بقواعد اللعبة في منطقة شرق المتوسط. فهي، من جهة، ترفض الانضمام إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وتهدف إلى تحديد مناطقها البحرية بشكل تعسفي. ومن جهة ثانية، لا تعترف بجمهورية قبرص وحقوقها القانونية. ومن جهة ثالثة، توجد لدى تركيا قضايا خطيرة في علاقاتها الثنائية مع مصر واليونان وإسرائيل وقبرص. وبذلك تحوّلت السياسة التركية المعروفة باسم صفر مشاكل مع الجيران إلى صناعة المشاكل مع مختلف الجيران. حاولت تركيا الدخول في لعبة الطاقة في شرق البحر المتوسط، من خلال الاستفزازات العسكرية ودبلوماسية البوارج الحربية التي تهدف إلى عرقلة تقدّم مشاريع الطاقة المختلفة في المنطقة، وهو ما ظهر في اعتراض البحرية التركية لسفينة سايبم 12000 الإيطالية في فبراير 2018. وتبدو تركيا مصرّة على شراء نظام الصواريخ الروسية أس-400 في تحدّ للولايات المتحدة، وهو ما يدفع بالكثير من المراقبين إلى وصفها بأنها ليست فقط “جارا صعبا” وإنما أيضا “حليف” لا يمكن التنبؤ بتصرفاته ولا يمكن الثقة فيه. وليس مفاجئا أن يتقدّم السيناتور روبرت مينينديز والسيناتور ماركو روبيو بمشروع قانون شراكة الأمن والطاقة في شرق المتوسط لعام 2019، من أجل تقديم الدعم العسكري والمادي لدول مثل قبرص واليونان، بهدف “ردع“ التهديدات التركية. تؤكد مناورات ذئب البحر عزلة تركيا في منطقة شرق المتوسط. وهذه العزلة لن تخف، على الأرجح، إلا إذا قرر الرئيس التركي الالتزام بنفس قواعد اللعبة، التي تلتزم بها مصر واليونان وقبرص والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإسرائيل. ومن هذه القواعد ضرورة تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة وفقا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1982. لكن لا يبدو أن أردوغان سيتخلّى عن سياسته على الأقل على المدى القصير.
مشاركة :