وقّع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج مذكرتي تفاهم في مجالي التعاون الأمني والمناطق البحرية. ورغم أن الجانبين لم يعلنا عن تفاصيل هاتين المذكرتين أو يذكرا أين ستلتقي الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، فإن هذه الخطوة التصعيدية من جانب أنقرة تدعم مشروع القرصنة التركي اللاهث وراء ثروات الغاز الطبيعي والنفط في منطقة شرق المتوسط. يرهن هذا الاتفاق سيادة ليبيا برا وبحرا وجوا بشكل تام، ويسمح للطائرات والسفن التركية بدخول المياه والأجواء الليبية دون إذن السلطات هناك. كما أن تدخل أنقرة في الشأن الداخلي الليبي بشكل غير مسبوق وتقاربها مع ميليشيات طرابلس وحلفائها السياسيين، قد يؤديان مستقبلا إلى عرقلة تصدير الغاز من منطقة شرق المتوسط إلى أوروبا، من خلال توظيف هذه الميليشيات في ضرب شاحنات نقل الغاز من مصر في طريقها إلى أوروبا أو في تفجير خط الأنابيب المزمع إنشاؤه بين إسرائيل وإيطاليا مرورا باليونان، والمعروف باسم “خط أنابيب شرق المتوسط”. لم يجد أردوغان أمامه سوى السراج كورقة تفاوضية بعد نجاح الترتيبات الإقليمية الجديدة من أجل تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي بين دول منطقة شرق المتوسط لتعظيم الاستفادة من الاكتشافات الهائلة من الغاز الطبيعي في المنطقة. في منتصف شهر يناير 2019، أطلقت مصر وإسرائيل واليونان وقبرص والأردن وإيطاليا والسلطة الفلسطينية “منتدى غاز شرق المتوسط”. ولم يتم توجيه الدعوة إلى تركيا للمشاركة بسبب مشكلاتها مع جميع جيرانها في مصر واليونان وقبرص، الأمر الذي استفز أردوغان ودفعه إلى التصعيد. يراهن أردوغان، منذ مجيئه إلى السلطة، على ثروات الغاز الطبيعي في شرق المتوسط لتجاوز أزمة تركيا الاقتصادية والطاقوية، كما أنه أيضا “يحلم” بأن تصبح بلاده ممرا لتصدير الغاز المكتشف في منطقة شرق المتوسط إلى أسواق الغاز الأوروبية، التي تعتبر الوجهة الأمثل لتصدير هذه الاكتشافات في المستقبل القريب، خاصة وأن هذا الوضع يرشح تركيا لكي تصبح “قوة إقليمية مهيمنة” في محيطها الحيوي. لكن تقارب الرئيس التركي مع السراج يبدو رهانا خاسرا في الحصول على جزء من كعكة الاكتشافات الهائلة من الغاز الطبيعي في شرق المتوسط. وثمة مؤشرات كاشفة عن تراجع فرص نجاح تركيا في تحقيق أطماعها في منطقة شرق المتوسط، منها: * رفض القوى المحلية والإقليمية والدولية للسلوك التركي في المنطقة. فقد أكدت مصر أن مثل هذه المذكرات معدومة الأثر القانوني، إذ لا يمكن الاعتراف بها على ضوء أن المادة الثامنة من اتفاق الصخيرات، الذي ارتضاه الليبيون تحت رعاية أممية في 17 ديسمبر 2015، والتي تحدد الاختصاصات المخولة لمجلس رئاسة الوزراء، تنص صراحة على أن رئيس مجلس الوفاق منفردا لا يملك صلاحية عقد اتفاقات دولية. ورفضت اليونان مذكرة التفاهم التركية الليبية حول الحدود البحرية، ووصفتها بأنها أمر مناف للعقل من الناحية الجغرافية لأنه يتجاهل وجود جزيرة كريت اليونانية بين الساحلين. واستدعت الخارجية اليونانية السفير التركي لديها، وأدانت الاتفاق مشيرة إلى أنه لا يمكن أن ينتهك سيادة دولة ثالثة، مضيفة “هذا الإجراء انتهاك واضح لقانون البحار الدولي… ولا يتماشى مع مبدأ حسن الجوار الذي يحكم بين الدول”. ومن جهته، أكد الاتحاد الأوروبي على التأثير السلبي الخطير للأعمال غير القانونية التي تقوم بها تركيا في البحر المتوسط على العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي. وكان الاتحاد الأوروبي قد أقر في يوليو الماضي عقوبات على تركيا، منها تعليق المفاوضات حول اتفاق النقل الجوي الشامل مع تركيا. كما وافق على اقتراح المفوضية بتخفيض مساعدات تركيا قبل الانضمام لعام 2020، ودعا بنك الاستثمار الأوروبي إلى مراجعة أنشطة الإقراض في تركيا. ووافق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات اقتصادية على تركيا قبل أسبوعين لمعاقبتها على عمليات التنقيب قبالة ساحل قبرص في انتهاك للمنطقة البحرية الاقتصادية الخالصة قبالة الجزيرة المقسمة. المادة 8 من اتفاق الصخيرات تحدد اختصاصات مجلس رئاسة الوزراء وتنص على أن حكومة الوفاق منفردة لا تملك صلاحية عقد اتفاقات دولية وأميركيا، اعتبرت واشنطن أعمال التنقيب التركي في المياه القبرصية بمثابة خرق لقواعد القانون الدولي. كما قدم السيناتور الديمقراطي روبرت مينينديز والسيناتور الجمهوري ماركو روبيو، في 10 إبريل 2019، مشروع قانون جديد لمجلس الشيوخ الأميركي بعنوان “قانون شراكة الطاقة والأمن في شرق المتوسط لعام 2019”. وسيتيح مشروع القانون المقترح، حال إقراره من جانب مجلسي النواب والشيوخ ثم توقيعه من جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، للولايات المتحدة وقف الاستفزازات التركية من خلال تقديم المزيد من الدعم لكل من إسرائيل واليونان وقبرص. * اتخاذ خطوات رادعة تركيا: سعت قبرص، التي تفتقر إلى قوة بحرية كافية، إلى تطوير مستوى من الردع الفعال في مواجهة أنقرة، من خلال جذب القوى البحرية الغربية إلى جانبها، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا. وعززت قبرص من تعاونها مع اليونان. إذ على الرغم من أن أثينا عضو في حلف الناتو فإنها ملتزمة بالدفاع عن قبرص في حالة وقوع هجوم تركي عليها (رغم أن أنقرة شريك لها في حلف الناتو). وفي نفس الوقت، تطورت العلاقات العسكرية الثلاثية المصرية- اليونانية – القبرصية-المصرية، ومثيلتها اليونانية-القبرصية– الإسرائيلية، من خلال إجراءات مناورات عسكرية دورية وتبادل الخبرات العسكرية. ومن ناحية أخرى، توجد اجتماعات دورية تتم بين مصر وقبرص واليونان للتنسيق في سبيل حماية مناطق التنقيب عن الغاز، وذلك بعد أن اتفق وزراء الدفاع في الدول الثلاث منذ عام 2017 على تعزيز التعاون العسكري وزيادة التدريبات المشتركة. وفي بداية شهر نوفمبر 2019، انطلقت فعاليات المناورات المشتركة بين القوات المسلحة المصرية واليونانية والقبرصية، المعروفة بـ”ميدوزا 9″، وذلك بهدف حماية الأهداف الحيوية والاقتصادية بالبحر المتوسط ضد أي تهديدات محتملة. استفزازات ولكن.. إمكانية خسارة الرهان الأردوغاني على تعزيز التعاون مع السراج، لن تدفع أنقرة، على الأرجح، إلى التوقف عن اللعب بالنار في المنطقة. فلا تزال “تكلفة” التوقف عن التصعيد والاستفزاز في هذه المنطقة “مقبولة” حتى الآن للرئيس التركي مقارنة بـ”المكاسب” التي يمكن أن تعود على تركيا من الاستمرار في أنشطتها المخالفة للقانون الدولي، لاسيما مع تزايد العوائد المالية المتوقعة مع ارتفاع الطلب على الغاز الطبيعي في أوروبا. وطالما كانت ردود أفعال الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فاترة إلى حد ما، فمن المتوقع أن تواصل تركيا أنشطتها. وطالما كانت القوى الفاعلة في المنطقة غير راغبة في حدوث مواجهات عسكرية في المنطقة، أو فرض عقوبات صارمة على تركيا، فمن المرجح ألا تتوقف أنقرة عن تحديها للمجتمع الدولي، خاصة بعد تسلم تركيا لنظام الدفاع الروسي أس–400، ومع التوقعات بأن يتجه الرئيس التركي إلى المغامرة والتصعيد المستمر في شرق المتوسط من أجل رفع شعبيته المتدهورة في الداخل قبل الانتخابات المقبلة في تركيا في سنة 2023. وهذا الوضع قد يؤدي إلى اشتعال التنافس والصراع، وربما الحرب، بين دول منطقة شرق المتوسط في المدى المنظور.
مشاركة :