وسط هذه النيازك والشهب الإعلامية التي تهبط على رؤوس البشر بالملايين كل يوم ومنطقتنا العربية ليست استثناء، تلهب العقول والأرواح حد الحرق، بأخبار هذا الشرق الملتهب حينا، وبوسائط التواصل الاجتماعي على اختلافها التي صارت تنافس القنوات الفضائية بطرح الغث الغالب وبعض القيم المفيد أحياناً أخرى، وسط كل ذلك يبرز أحياناً عمل إعلامي وكأنه يذكّرنا بأننا أمة سادت عندما أخذت بأسباب السيادة.. وانحدرت حين تخلت عن تلك الأسباب. لسنا بدعاً من البشر فكل أمة تمر بدورات حضارية صعوداً وهبوطاً، وسوف ننهار كأمة فقط إذا جعلنا الآخرين ينجحون في إقناعنا بأننا لن ننهض من سقطتنا، واذا أدخلنا الهزيمة إلى أنفسنا بأنفسنا، وهذا لن يحدث إن شاء الله رغم ما يعمل أعداء هذه الأمة وللأسف بعض أبنائها لغرزه في أفئدة وعقول تملكت بعضها الحيرة وما زال بعضها الآخر على يقين بأن الأيام دول وقوة الحق أبقى من حق القوة. الدكتور عيد اليحيى أعاد التذكير بأساس هويتنا الحضارية، بلغتنا العربية وآدابها، بشعرها وشعرائها، بل وجغرافيتنا التاريخية والأدبية، تقفى خطى الشعراء ومنازلهم، فأزاح التراب عن أطلالهم واستنطق حجارتهم فكأنها نطقت فحكت وأنشدت أشعاراً لطالما حركت دواخلنا وألهبت نوازعنا قيماً وفضائل وعشقاً وشجىً وطرباً. ومرة أخرى، فليست هذه (ماضوية) كما يُقال وبكاء على الأطلال بقدر ما هي تأكيد بتاريخ مجيد نلتفت له لا للاتكاء عليه وتخدير آلام الحاضر، بل للاعتبار والأخذ منه بما يفيدنا حاضراً ومستقبلاً، والحفاظ على اللغة التي هي وعاء الفكر والثقافة والهوية. هل منع التقدّم الصناعي والقوة الاقتصادية بريطانيا من استحضار وتجسيد مسرحيات كاتبهم الأشهر وليم شكسبير وتخليد أشعاره. ألم تضع شركة طيران (فرجن) رسماً لشخص شكسبير على أجسام طائراتها، فلم يتهمهم أحد بأنهم ماضويون رجعيون. وبالطبع فإن علتنا في عدم ترتيب الأولويات واضطرابها في العموم، إنما هناك نماذج نجاح تدل على أحقيتنا بالنهوض والتقدم مثل غيرنا, وتركيا وماليزيا وإندونيسيا المقبلة على القوة الاقتصادية مع نيجيريا كذلك، والمملكة باقتصادها وعملها المتواصل لإحداث نقلة في الموارد البشرية والتعليم أيضاً مثال ناصع، فلنكف عن جلد الذات ونحترم هويتنا حتى يحترمنا الآخرون. على خطى العرب، أتى ليؤكد بنجاحه ومتابعة الملايين عبر العالم العربي أن تلك البرامج المعلبة التي تستوردها بعض القنوات العربية ما هي إلا للاستهلاك السريع والغث من قبل من انبهر بفرقعاتها وصخبها الفج، برامج قدمت التهريج والإسفاف والتقليد الممسوخ على صقل الثقافة وإثراء المعرفة والترفيه النظيف. وبرغم أن هناك من يأخذ على الدكتور عيد عدم التدقيق في لفظ بعض كلمات الأبيات والأسماء، إلا أنه يرد على تلك الانتقادات بأن البرنامج لعامة الناس وليس فقط للمتخصصين ولعله يهدف من وراء ذلك إلى التبسيط وإبعاد الصورة الذهنية عن جيل الشباب تحديداً أو بعضهم بعبارة أصح من أن اللغة العربية والشعر العربي القديم يتسمان بالتعقيد أو صعوبة التناول. هذا مجرد تخمين على كل حال، إنما يكفي الدكتور عيد وفريقه العامل في هذا البرنامج الفذ هذا الجهد الجبار في اقتفاء أماكن الشعراء ومن اتصل بهم واتصلوا به من معشوقات وربوع وحمى. ومن ديار وسهول وجبال، جهد أعاد الجماهير إلى القيم الرفيعة التي تحارب في عقر دارها، إلى معاني النبل والوفاء والفروسية، إلى الشعر، إلى ديوان العرب ولغتهم وآدابهم. من أكثر المشاهد إثارة للمشاعر حين قال بعد أن سرد قصة أحد الشعراء العرب وتحدث عن مكانه (لا تلوموني في حب العرب وحياة العرب وتقاليدهم وقصص مروءاتهم ووفائهم ومحاسنهم). ثم أبدى تخوّفه وهو يعانق تلك الصخور الرخامية الزرقاء ويقبلها وكأنها حلية على صدر غيداء، تخوفه من أن تأتي يوماً ما قواطع فولاذية تزيل هذه الشواهد التي لطالما أرجعت صدى صيحات فارس مغوار، أو شهدت لقاء عذرياً تحت ضياء القمر. لا ألومك، فلم يختر الله جلَّت قدرته العرب لرسالته وقرآنه إلا لما فيهم من مكارم أخلاق، فليتهم اليوم يستعيدون معانيها.. على خطاهم يا دكتور عيد.
مشاركة :