لم يتجاوز منظِّرو علمِ الإدارة تخوم الجِدّ. ولم يستخدموا النكتة كوسيلة إيضاح إلا نادرا. تطرقوا إلى صفات المدير الناجح، لكنهم أغفلوا الإشارة إلى صفات المدير «الناجح بالعافية». لم تتناول الأدبيات البيروقراطية دلالات (اللمبة الحمراء)، والتقارير الوردية، والرفوف الأبنوسية، والاجتماعات اليومية المخملية، والأبراج العاجية. لم يتعمقوا في دراسة إيثار الانزواء على اللقاء، وعشق الجولات الميدانية تحت الأضواء؛ أضواء الكاميرات وتسجيل الحضور الإعلامي. لم يتساءل فقهاء الإدارة: كيف وصل «سعادته» إلى تلك «السعادة المفرطة» بين ليلة وضحاها. وكيف تجاوز «الطفولة الوظيفية» بتلك السرعة الفائقة بعد استيعاب فلسفة «متى وكيف تُؤكل الكتف». منظِّرو الإدارةِ جادون، لذلك لم نجد منهم من اهتم بدراسة وصية الفنان الكوميدي جورج كوستانزا، وهي وصية تحمل طابع التهكم الهادف. يقترح كوستانزا على الموظف المتطلع إلى كرسي الرئاسة أن لا يكون خارج مكتبه ويده خالية من الملفات والأوراق. فالشخص الذي يحمل أوراقاً أو ملفات يبدو، لمن يقابله، موظفاً جادّاً ذاهباً إلى اجتماع. أما الموظف الخارج من مكتبه خالي الوفاض، فيبدو وكأنه ذاهب إلى الكافتيريا، أو إلى دورة المياه. وأما إذا أخذت رزمة كبيرة من الملفات والأوراق وأنت في طريقك إلى البيت، فسوف تعطي انطباعا بأنك تضحي بوقتك الخاص من أجل العمل. وجاء في تلك التوصية (الذهبية) أن لا يترك الموظف الطاولة خالية من المستندات والملفات. «اجمع ما استطعت من تلك المستندات والملفات وضعها على مكتبك، فالطاولة «النظيفة» المرتبة قد لا توحي لرئيسك بأنك تنجز عملك أولا بأول». وقد تخلق انطباعا سلبيا بأنك تقضي وقتك نائما. أو تقرأ الجرائد، أو تتابع من مكتبك حركة الأسهم، أو «تدردش» مع مجموعتك على الواتساب. يمكنك أن تفعل ذلك كله، لكن حاول أن تجعل طاولتك مزدحمةً ازدحامَ شوارع الدمام في الليالي التي تسبق العيد. وصايا تتخذ من الهزل وسيلة لنقد الواقع البيروقراطي، وتعبر عن سلوكٍ وظيفي زئبقي مراوغ. يؤمن ذلك النموذج من الموظفين بالمثل الشعبي القائل «نصف الحرب التهاويل»؛ أي التهاويل التي لا تخدم أحدا غير المهَوِّل نفسه. ويدرك أهمية الدعاية والإعلان عما أنجزه، وما سوف ينجزه، وما لم ينجزه. وقد يختطف إنجاز بعض زملائه ليضيفه إلى رصيده. وإذا كانت «الطاولة النظيفة» تعطي انطباعا سلبيا، فإن الموظف قليل الكلام قد يعطي الانطباع السلبي نفسه، فبعض الرؤساء تبهره الاستعراضات كثيرا، وقد يلفت انتباهه الأعلى صوتا والأكثر صخبا مِنْ هُواة الاستعراض وأساتذة الاحتواء. و.. «من سبق لبق» كما يقول المثل الشعبي. ولأن الناس تُؤْخَذ بالظاهر، فقد يجد الرئيس الجديد في ذلك النموذج القادر على الاستعراض والإدهاش ولفْتِ الأنظار ضالَّته التي يبحث عنها، وقد يجد الموظف «الفلتة» أو «المنفلت» فرصا للتقدم أكثر من زملائه الجنود المجهولين العاملين بصمت. وحريٌّ به أن يقول: «أحرزت تقدما لا لكفاءتي، بل لأن رئيسي لا يميز بين الغث والسمين». هكذا يضمن «السابق اللابق» لنفسه مساحةً يبسط عليها وجوده ونفوذه، باعتباره المنقذ والموظف الاستثناء. ربما تساهم الأنظمة واللوائح البيروقراطية في تكريس ذلك السلوك الوظيفي غير المنتج. وفي مثل ذلك المناخ البيروقراطي العجيب، ومع غياب معايير دقيقة لقياس الانضباط الوظيفي والإنتاجية، يتعذر التمييز بين المراوغة والاستقامة، والنباهة والبلاهة، والجد والتنبلة. و.. «نصف الحرب التهاويل»! كما يقال. متخصص في الإدارة المقارنة
مشاركة :