"مهرجان كان" يغوص متواطئاً في يوميات أحمد وسامية المتناقضة

  • 5/22/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

ما كان يمكن لشيء أن يجمع المراهق المسلم الذي يعيش في بلجيكا، بالصبية المغربية الآتية من الريف الى الدار البيضاء، غريبة بائسة حاملة جنيناً لن ترغب به. لكن معجزة السينما الصغيرة عرفت كيف تجمعها على شاشتين، قدمتا لنا كل واحد منهما في فيلمين مختلفين، أولهما للأخوين البلجيكيين المخضرمين المحملين بجوائز المهرجانات، جان – بيار ولوك داردين، والثاني هو أول روائيّ طويل للسينمائية المغربية مريم توزاني، التي عرفت بأفلام قصيرة وبتعاونها مع زوجها السينمائي المعروف نبيل عيوش في كتابة بعض أفلامه وإنتاجها. نتحدث هنا، عن الفيلم البلجيكي "الفتى أحمد" – المشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان – من ناحية، وعن "آدم" المغربي – المتباري في تظاهرة "نظرة ما" – من ناحية ثانية. وبالتالي، لم يجتمع أحمد وساميا في فيلم واحد، ولا في جغرافية واحدة. لكنهما كانا الشخصيتين الرئيسيتين في إثنين من أبرز ما عرض أمس، في سياق العروض "الكانية" فجمعتهما الصدفة في يوم واحد، ليرسما معاً صورة ما لمراهقين من أجدّ الأجيال العربية، ومن خلال ذلك، لبعض ما هو ماثل ويحدث لهذه الأجيال. نبدأ مع فيلم الأخوين داردين، اللذين يحاولان أن يستعيدا فيه بريقاً سينمائياً بات مهدداً في الآونة الأخيرة؛ وذلك من خلال موضوع شائك وشديد الراهنية، على الأقل في أوروبا اليوم، ولا سيما في بلجيكا، التي تعاني ما تعانيه من إرهاب متطرفين إسلاميين، وتجنيد بعض الأئمة المتطرفين للفتيان، محوّلين إياهم قتلة باسم الدين. وأحمد، الذي نحن في صدده هنا، واحد من أولئك الفتيان، يقدّم إلينا منذ بداية الفيلم عبر كاميرا دينامية ذكية، تكاد تكون وثائقية، لترينا نموذجاً لأولئك الفتية المغرّر بهم على الضد من اندماجهم الحقيقي في مجتمع الغربة، وعدم انتمائهم أصلا الى عائلات متشددة، ما يطرح أسئلة عدديدة حول دوافعهم، وكيف وصلوا الى تنظيم "داعش" الإرهابي وأمثاله. فيلم الإخوة داردبن، الذي ستكون لنا عودة إليه، وإذا كان تمكن من تذكيرنا بالسينما الحية والإجتماعية والنزيهة لهذين الأخوين البلجيكيين، أبقانا على أي حال على ظمأنا من ناحية سؤال الـ "لماذا"، وبرع في الإجابة على سؤال الـ "كيف"؟. تماماً كحال عشرات الأعمال الفنية والأدبية السابقة التي تناولت الموضوع نفسه بدءا من فيلم "الأبواب المغلقة" للمصري عاطف حتاتة، ورواية "إرهابي" للكاتب الأميركي الراحل جون أبدايك، وهما عملان سبقا "الفتى أحمد" بما لا يقل عن عقدين حاملين ليس موضوعه وحسب، بل حبكته أيضا، وصولاً الى أعمال عدة أكثر حداثة منها: "ولدي" للتونسي محمد بن عطية، و"زهرة حلب" للتونسي أيضا رضا الباهي – اللافت في نصفه الأول على الأقل - يأتي الفيلم البلجيكي الجديد، ليسهب في تصوير كيف يصبح الإرهابي إرهابياً، لكنه يعجز في المقابل عن إخبارنا لماذا يصبح إرهابياً... ومن هنا، على رغم لغة سينمائية مدهشة وتمثيل جيّد للفتى الذي لعب دور أحمد الذي "يريد أن يستكمل دينه من خلال قتل معلمته المرتدّة لمجرد أنها لا توافقه آرائه وتطرفه وتريد إنقاذه منهما..."، لا يبدو الفيلم إستثنائياً أو يضيف إلى ما "نعرف" مسبقاً حول هذه القضية التي تشغل كثراً اليوم. هذا بالنسبة الى أحمد، أما بالنسبة الى ساميا في فيلم "آدم"، والتي تكاد تكون في ظروف أخرى أخته أو رفيقته، فإنها مراهقة أخرى لكنها تصل الدار البيضاء من موطنها البعيد وهدفها وضع جنينها والتخلص منه قبل أن تعود الى قريتها وقد محت عارها الذي سببه لها حبيب غدر بها وتخلى عنها. في الدار البيضاء، وبعد جولة تسوّل، ترينا خلالها المخرجة عبر كاميرا تريد أن تكون وثائقية واتهامية للمجتمع في الوقت ذاته، نتفاً من حياة هذه المدينة. تصل ساميا متسولة إلى بيت عبلة (لبنى الزبال)، الأرملة التي تعيش من فرن صغير تملكه وتبيع الحلوى من نافذته، لتقيم أودها وأود طفلتها وردة. في البداية، تطرد عبلة ساميا، فعندها من الهمّ ما يكفيها، وهي ستطردها مرة ثانية، لكنها في المرتين سوف تستعيدها لتنشأ بين ساميا من جهة وعبلة ووردة من جهة أخرى صداقة وتواطؤ مدهشين بعيداً من عالم الرجال... وتبقى العلاقة طيبة تتمكن فيها كل من المرأتين من زحزحة الهموم عن كاهل الأخرى. لا بل أن عبلة الحزينة المتحفظة دائماً، سوف تنقلب جذرياً تحت ضغط ساميا، المقتربة من وضع طفلها. لكن الذي يحدث، أن ساميا لن تريد الإحتفاظ بالطفل أو حتى تسميته أو مجرد النظر اليه أو إرضاعه! وهنا، وهذه المرة تحت ضغط عبلة، سينتهي الأمر بعد دقائق طويلة من استعراض كاميرا حنون وهادئة للطفل وتطور نظرة أمه إليه لتتقبله بالتدريج، ينتهي الأمر بالأمومة الى التغلب على رفض ساميا للطفل، لا سيما بعد أن تسميه آدم كناية عن اعتباره الرجل الأول في الكون، في إلغاء رمزي لكل الرجال الذين اضطهدوا ساميا في شخص حبيبها الهارب. وينتهي الأمر بساميا الى مبارحة بيت عبلة ونحن على يقين الآن، من دون أن يقول لنا الفيلم بوضوح، أنها قررت أن تمسك مصيرها وطفلها بيديها. فيلم طيب وحنون "آدم" من دون أن يكون عملا سينمائيا كبيراً، يشكّل في نهاية المطاف ما يشبه التحية للأنثى العربية الجديدة، تلك التي لا تزال تعيش أصعب الظروف في مجتمعات لا تريد أن تتقدم، وبسبب ذكور لا يريدون تحمّل مسؤولياتهم مع إصرارهم على امتلاك كل شيء. في لحظة من لحظات الفيلم، تقول ساميا لعبلة بكل مرارة حين تحدثها الأخيرة عن "طفلها": "إنه ليس طفلي. إنه ملك الآخرين... أنا وأنت لا نملك شيئاً على الإطلاق ولا حتى ذاتنا". لكن من الواضح في النهاية، أن ساميا قررت أن تبقي على طفلها، مستحوذة على الذكر الأول في التاريخ "الجديد" للبشرية!

مشاركة :