اليسار العربي إلى أين؟ (1)

  • 5/25/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تنبثق حاجتنا الى التغيير في اللحظة التي يصبح فيها -هذا التغيير- ضرورة ماسة، وعندما لا يستجيب الثبات للاحتياجات المستجدة في العصور المختلفة، كما يأتي التغيير -في الأفكار على وجه الخصوص- عندما تتصادم الثوابت الفكرية مع التطور والواقع الجديد الذي يحتاج الى وسائل وآليات جديدة، فإذا لم يحدث هذا التغيير في هذه الحالة، يتجمد هذا الفكر ويصبح عقبة في طريق التقدم. أما إذا تجدد هذا الفكر، مع المستجدات الجديدة في العصر الجديد، يصبح في هذه الحالة، ملائما للواقع الجديد، وربما للواقع القادم إذا استمر التجديد دون توقف.  فالإنسان يتعلم ويتقدم ويتطور عبر التجربة والخطأ، وتصحيح الخطأ بناءً على معطيات التجربة (التجربة خير برهان)، ومنذ أن أكدت الفلسفة التجريبية التي تقول إن الواقع يسبق المفهوم والفكرة، وإن المفاهيم والأفكار والأيديولوجيا تتطور بالتجربة والمعاينة التي تترتب عليها تفسيرات جديدة، اتسعت القناعة بالتغيير بناءً على معطيات الواقع.  وفي ضوء هذا التوضيح، يمكننا أن نتابع تحولات اليسار العربي بين ثباته وتجدده، وستتوضح لنا -في ضوء ذلك- كيف تعامل اليسار مع ثنائية القديم والجديد، والثبات والحركة.  كان العالم بعد الثورة البلشفية 1917 موزعا بين قطبين متواجهين كل منهما يزعم أنه يملك الحقيقة والصواب؛ المنظومة الرأسمالية من جهة والمنظومة الاشتراكية من جهة أخرى، وظل هذا التقسيم قائما حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي، حين حُسمت هذه الثنائية لصالح النظام الرأسمالي، فالتجربة أكدت أن الأيديولوجية الرأسمالية هي أفضل الخيارات.  قبل هذا التاريخ الذي تأكد فيه صلاحية النظام الرأسمالي، وعدم صلاحية النظام الاشتراكي، كان اليسار العربي يعتقد أن الاشتراكية -نظامًا- تحقق العدالة والحرية والمساواة والرخاء، ومازال جزء من اليسار يعيش على مفاهيم أوضحت المستجدات الجديدة أنها غير مجدية ولا توصل الى هذه الأهداف، أو أنها ليست أفضل الخيارات.  وفي مقالة سابقة أوضحنا المتغيرات التي حدثت في تيارات اليسار في الغرب، خصوصًا بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، إذ أصبح اليسار الغربي أكثر اندماجًا في الليبرالية الرأسمالية، ونظامها السياسي والاجتماعي. فهل حدث تغيير مماثل في تيار اليسار العربي؟ من المعروف أن التيارات اليسارية في العالم متشابهة في أساسها الأيديولوجي، في العالمين الصناعي والنامي على حد سواء، لكن هناك اختلافات بين اليسار العربي واليسار الغربي، راجعة لاختلاف البيئة الثقافية والتراتب الحضاري، فاليسار الغربي هو نتاج حضارة متقدمة أفرزت بيئة سياسية واجتماعية وثقافية متقدمة، وهذه البيئة تستند إلى تراث طويل من التنوير والعقلانية والفلسفة التجريبية التي تؤمن (بالتجريب للوصول الى إلمعرفة).  وهذا الفكر التجريبي الذي وصل الى ذروته في القرن الثامن عشر هو نتاج التقدم العلمي في هذا القرن، فالغرب إذن يستند إلى قاعدة صلبة فكرًا وثقافة، امتدت زهاء عدة قرون من التطور، فيما لا يستند اليسار العربي الى هذه الدعائم الراسخة في تشكيل وعيه وقدرته على التفكير المستقل، بعيدًا عن تأثيرات الأشخاص (الزعيم) والمؤسسات (الحزب أو الطائفة)، وعلى العكس من ذلك، فاليسار العربي تكوّن في بيئة تقليدية ماضوية راسخة، لذلك سنلاحظ أن اليسار العربي يتحول جزء منه سريعًا الى المؤسسات الطائفية التي اتسعت في الثمانينات من القرن الماضي، ثم بلغت ذروتها نهاية القرن الحالي. وحدث هذا التغيير عند اليسار العربي بسرعة قياسية لافتة لأسباب البنية الثقافية التقليدية الهشة.  ولتحليل تاريخ اليسار العربي لا بد أن نذكر أنه تعرض لظروف قاسية في مرحلة المد الديني الكاسح طوال ثلاثة عقود، مع أنه -أي اليسار- كانت له شعبية واسعة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ورغم تمتعه بتاريخ وطني وقومي حافل، لكن المد الأصولي الطائفي كان يرتكز على بيئة ذات ثقافية تقليدية عميقة الجذور. ذلك لم يُلق أهمية اليسار الذي تحمل مسؤولية تاريخية بجدارة واقتدار في الستينات والسبعينات. التيار اليساري، أيضًا ينتمي الى منظومة عالمية واسعة وراسخة، هذه حقيقة، الحقيقة الثانية، فهذا اليسار الذي تآكل في الثمانينات، تآكل مرة أخرى في تسعينات القرن الماضي بعد السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي الذي كان يسند اليسار في العالم في نضاله للتحرر الوطني. ولا أميل الى التحليل الذي يزعم أن الأطياف اليسارية فشلت في تأسيس علاقة عميقة مع الشارع، ولم تكن قريبة من الجماهير، وأعتقد -على العكس تمامًا- أن هذا الرأي فيه تعسّف ضد اليسار، فالجماهير التي تنتمي الى بيئة ثقافية تقليدية عميقة، هي التي ابتعدت عن اليسار، وانضمت الى مد الإسلام السياسي الذي وجد له بيئة خصبة للنمو والانتشار.  وهناك حقيقة أخرى يجب الالتفات إليها، فالقوى اليسارية التي وصلت الى السلطة بالانقلابات العسكرية -في العراق وسوريا- خذلت الجماهير من جانب آخر، وكانت نموذجًا سيئًا لليسار. ومع الانحسار الأخير في مد الإسلام السياسي، قد تتاح الفرصة لليسار للظهور في المشهد العربي إذا تواءم مع المستجدات الجديدة. ما هي هذه المستجدات الجديدة التي تستلزم متغيرات ومواقف جديدة؟ ... يتبع.

مشاركة :