أحد أهم الأسئلة المثيرة للجدل على مائدة النقاش السياسي في المنطقة الخليجية الملتهبة هذه الأيام، هو ذاك المتعلق بالعراق الدولة المستقلة صاحبة التاريخ الحضاري القديم، رغم الكبوات التي واجهتها في أواخر القرن الماضي. هل العراق دولة حرة أم دولة تدور في فلك إيران، ذاك السياق الذي يمكن أن يمثل بالنسبة لها فخاً ملغوماً وقابلاً بل جاهزاً للانفجار في وجهها في أي وقت؟ يقارن مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون وضع العراق في علاقته مع إيران اليوم، بوضع الاتحاد السوفييتي السابق مع دول أوروبا الشرقية، والمقاربة تحمل الكثير من دلالات النفوذ واليد العليا، بل السطوة من قبل دولة على أخرى، ولم يتوقف الأمر عند حدود بولتون الصقر الأميركي الأشهر، بل وصل إلى «نيكي هايلي» مندوبة أميركا السابقة في الأمم المتحدة، والتي هاجمت إيران في سبتمبر المنصرم، متهمة إياها بأنها «تعمل على تشكيل حكومة عراقية تكون تحت سيطرة النظام الإيراني وتخضع لتوجيهاته». يتساءل المراقبون لتطورات المشهد السياسي على الساحة العراقية:هل سيدفع العراق فاتورة باهظة التكاليف من جراء الهيمنة الإيرانية على قراراته الداخلية؟ الشاهد أن احتمالات المواجهة الإيرانية الأميركية ربما تجري مقدراتها أول الأمر على الأراضي العراقية، وقبل أن يحتدم الصراع في منطقة الخليج بشكل عام، إنها حرب الوكالة التي طال الحديث عنها مؤخراً. على الأراضي العراقية يقوم «الحشد الشعبي» بنفس الدور الذي يقوم به «الحوثيون» في اليمن، و«حزب الله» في لبنان، و«حماس» في غزة، وأطرف طهران الميليشياوية في سوريا، وجميعهم قد حضروا أوراقهم سريعاً للانقضاض على الأميركيين وحلفائهم، في الخليج العربي والبحر الأحمر وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط. المؤكد أن العراق بات -ومن إسفٍ شديد- موقع وموضع لخيوط متداخلة وخطوط متشابكة لقوى أممية كبرى، وإذا كان للأميركيين على الأراضي العراقية نحو خمسة آلاف جندي، فان للإيرانيين أضعاف الرقم، لكنهم في الغالب غير ظاهرين على السطح بولائهم الأيديولوجي السياسي، بل قابعين تحت سطح الأحداث من خلال الانتماء الدوجمائي الذي أجادت إيران إذكاء نيرانه الطائفية طوال العقدين الماضيين. يكاد العراق أن يضحى أرض المحاصصة والمقاصة بين الأميركيين والإيرانيين، وهذا ما كشفت عنه الأحداث بشكل واضح في الأسابيع الأخيرة، حيث بدا وكأن السياقات تتسع والنطاقات تتزاحم بالأضداد. لم يكن الحرس الثوري الإيراني، وقائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني بعيداً عن العراق، فقد كانت جولته الأخيرة في العراق، وما التقطته أجهزة الاستخبارات الأميركية السيارة والطيارة لأحاديثه هناك، تؤكد من جديد أن الرجل الشرس يعد العدة لاقتناص الجنود الأميركيين وقتلهم أو اختطاف البعض منهم رهائن، والأمر نفسه ينسحب على لبنان وبقية المنطقة. المعلومات التي توافرت للأميركيين هي التي دفعت وزير الخارجية مايك بومبيو، رجل الاستخبارات المركزية السابق، لأن يمضي إلى العراقيين بطلب واضح ومحدد، يحمل نبرة التهديد والوعيد:«إن لم تكونوا معنا، فعلى الأقل لابد من أن تلتزموا الحياد». السؤال المهم والحيوي: هل القرار العراقي في يد العراقيين، وهل لهم أن يرفضوا تحويل بلادهم إلى مستنقع واسع وفخ كبير، يقعوا هم أنفسهم فيه قبل أي طرف آخر؟ يمكن للمرء أن يجد بعض الإشارات الطيبة في البحث والتحليل، فعلى سبيل المثال، بعد الرحلة الأخيرة التي قام بها الرئيس ترامب إلى العراق في أواخر 2018 علت الأصوات الموالية لإيران تطالب بطرد عديد القوات الأميركية من البلاد، غير أن أصوات مقابلة من أطراف أخرى أفشلت طرح المشروع للتصويت عليه، ولا يزال الأميركيون في قواعدهم في العراق، وأغلب الظن أنهم سيبقون إلى وقت بعيد. لا يزال النفوذ الإيراني في الداخل العراقي نفوذاً مُعطِلًا، والدليل أن رئيس الوزراء السيد عادل عبد المهدي غير قادر على تعيين وزير للداخلية حتى الساعة. كارثة العراق أن النظام الإيراني يريد جعل روحه منقسمة داخله بشكل يهدد استمرار بلاد الرافدين واستقرارها كدولة عربية قوية موحدة ومحورية، وربما هذا ما تنبه إليه السيد مقتدى الصدر، زعيم الكتلة الصدرية، التي تصور نفسها حركة وطنية ترفض النفوذين الأميركي والإيراني. الصدر عبر تغريدة له كتب قائلًا: «الحرب بين إيران وأميركا ستكون نهاية للعراق، وأي طرف يزج العراق بالحرب ويجعله ساحة للمعركة سيكون عدوا للشعب العراقي». صوت «الصدر» ربما يعبر أيضاً عن أصوات عديدة في الداخل العراقي، باتت تقيم وزنا لحسابات الأرباح والخسائر، ما بين العراق القطر العربي الشقيق والذي كان يوما أحد أعمدة الخيمة العربية، وبين العراق التابع لإيران، والمرتهن قراره للملالي في قم. عقلاء العراق يرون أنه حان الوقت لإخراج بلادهم من معادلة العراق فيها خاسر في الحل والترحال، وأنه يكفيه عقود من الحرب الضروس التي أتت على الأخضر واليابس. هل ينجو العراق من الفخ الإيراني؟ الجواب عند إرادة العراقيين أنفسهم.
مشاركة :