دفعت الأوضاع السياسية الاستثنائية في الجزائر، بهذا الوزير والدبلوماسي السابق، والشخصية المستقلة خلال العقدين الأخيرين إلى الواجهة السياسية والإعلامية، كشخصية تتوفر على الحد الأدنى من الإجماع بين الجزائريين، للإشراف على مرحلة انتقالية تحقق الانتقال من نظام بوتفليقة، إلى نظام تطمح إليه الملايين في الحراك الشعبي. وبين التماهي مع الأفكار القومية لحزب جبهة التحرير الوطني، الذي حكم البلاد بمفرده لنحو ربع قرن، وذلك لكونه الوريث الشرعي للجبهة التي حررت البلاد من الاستعمار، وبين الوفاء لمرجعية والده الإصلاحية الإسلامية أثناء مرحلة الحركة الوطنية، تشكلت عناصر شخصية أحمد طالب الإبراهيمي، الباحث عن مخرج لأزمة بلاده السياسية بزهد لافت في السلطة. ولم يكن للرجل الذي توارى عن الأنظار منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، أن يعود إلى الواجهة لولا الإلحاح المسجل في بعض الدوائر السياسية والشعبية، من أجل طرحه كشخصية مستقلة تتوفر على شروط إدارة مرحلة انتقالية في البلاد، لاسيما وأنه يبدي زهدا في السلطة مع اقترابه من سن التسعين. ترحيب القوى السياسية حظيت خارطة طريق الإبراهيمي، بترحيب العشرات من القوى السياسية والأهلية والنقابية والفاعلين في الحراك الشعبي، لما طرحته من أفكار وتصورات عملية تختصر الوقت والجهد، وتكفل للشارع الجزائري تحقيق حلم التغيير السياسي، إلا أن موقف الجيش يبقى الحاسم في تقدم مسعى الرجل من جموده في مكانه، في ظل الغموض الذي يكتنف الوضع في البلاد.ومن بين ما ذكره في بيان وجهه إلى الرأي العام قوله “لقد تقدمت بي السن وألغت كل طموح في نفسي، بيد أنها لم تستطع منعي من التفاعل مع قضايا وطني. لم أعد بتلك الفتوة التي تمنحني القوة لأكون معكم في مسيراتكم المباركة التي تدكّون بها في كل يوم يمر منذ 22 فيفري الماضي ركائز نظام فاسد، وتؤسسون لعهد زاهر أنتم الآن بصدد وضع لبناته الأولى. عهد سيشهد بناء دولة القانون التي تصان فيها مقومات الأمة، وتحترم فيها الحريات وحقوق الإنسان، وتكون فيها العدالة مستقلة في نزاهة أحكامها، والعدالة الاجتماعية حقيقة مجسدة في التوزيع العادل للدخل الوطني وتوفير فرص متكافئة للجميع في الرقي الاجتماعي والعيش الكريم والمشاركة في الحياة السياسية، ولن يتأتى ذلك إلا إذا انتهينا من الخلط بين السلطة والمال الفاسد، وقمنا بأخلقة الحياة العامة ودفعنا إلى الصفوف الأمامية برجال مسؤولية وليس برجال تنفيذ”. ذاكرة خسارة الرئاسة الإبراهيمي لم ينكر صحة المساعي المبذولة من طرف فاعلين وناشطين في الحراك الشعبي، من أجل إقناعه بإدارة مرحلة انتقالية في البلاد للخروج من المأزق الذي تتخبط فيه منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وذلك من خلال استقبال وفود عرضت عليه بإلحاح قيادة المرحلة الانتقالية، إلا أنه بقي مترددا في الرد بالإيجاب على تلك الدعوات. وبرر المسألة بـ”تفادي كل تفسير خاطئ يوحي برغبة في استغلال الموقف من أجل التربح السياسي، أو تصفية حساب مع الرئيس السابق، والابتعاد عن تكريس الزعامة وعبادة الشخصية التي قضت عليها ثورة التحرير قبل أن يعاد إحياؤها اليوم”. ومنذ خوضه لغمار الانتخابات الرئاسية عام 1999، وإقراره بالانسحاب الجماعي رفقة المرشحين الخمسة الآخرين، عشية يوم الاقتراع، احتجاجا على انحياز الإدارة والمؤسسة العسكرية آنذاك إلى مرشح السلطة عبدالعزيز بوتفليقة، لم يظهر الإبراهيمي، إلا في مناسبات معدودة، كان آخرها عام 2017، حين أصدر بيانا مع المحامي والحقوقي علي يحيى عبدالنور، واللواء المتقاعد رشيد بن يلس، شرح فيه موقفهم من الأوضاع السياسية في البلاد. ويبدو أن الرجل تلقف اليوم التحول اللافت في عقيدة الجيش، الذي يتلافى الآن المواجهة مع الشارع أو قمع المتظاهرين، عكس موقفه في تسعينات القرن الماضي حين تورط في حرب أهلية بذريعة محاربة الإرهاب. ولذلك ثمن تعاطي المؤسسة مع الحراك الشعبي، عبر ما أسماه بـ”الحفاظ على سلمية المظاهرات والحرص على تجنب استعمال العنف”، واعتبره مؤشرا على ميلاد ثقافة ديمقراطية تمنع استعمال العنف من أجل الوصول إلى السلطة أو التشبث بها.لكنه في المقابل أوجب على المؤسسة العسكرية الإصغاء إلى اقتراحات النخب وعقلاء المجتمع، وألّا تكون سندا لمؤسسات لا تحظى بالرضا الشعبي، حتى وإن كانت في وضع دستوري ثابت كان مبرمجا لحالات عادية، وليست استثنائية كالتي نمر بها اليوم. ولفت إلى أن مشروعية تدخل المؤسسة العسكرية، لا يجب أن تكون بديلا للشرعية الشعبية، وعليها أن تكون قناة لتحقيق هذه الشرعية عبر الاستجابة الواضحة للمطالب الشعبية وفق قراءة واعية ومسؤولة للواقع السياسي وضغوطات المرحلة، بحيث لا تنحرف هذه المشروعية إلى إعادة إنتاج وسائل وآليات الحكم السابق عبر عناوين جديدة يلتبس فيها مبدأ الاستقرار المؤسساتي والدستوري بريبة المطامع السلطوية التي لا تخلو منها أي نفس بشرية. المدرسة البومدينية الشخصية السياسية للإبراهيمي امتزجت فيها تصورات الفكر التحرري للجبهة، والبعد الإصلاحي الاجتماعي في جمعية علماء المسلمين خلال الحقبة الاستعمارية. وكان الرجل خلال شغله مناصب قيادية في الحكومة والحزب الحاكم، أحد رموز التيار العروبي والإسلامي داخل السلطة، ولذلك وصف بـ”صوت جبهة الإنقاذ الإسلامية المنحلة، داخل الحزب الغريم جبهة التحرير الوطني”، وكان من الرافضين لوقف المسار الانتخابي من طرف الجيش في مطلع التسعينات، وهو ما كلفه منصبه وموقعه في المشهد الذي رافق مرحلة العشرية الدموية وأعقبها. ومع ذلك يحسب الرجل على المدرسة البومدينية، وعلى مجموعة “وجدة” التي استحوذت على السلطة عند الاستقلال في 1962 بدعم الدبابة وعلى حساب شرعية الحكومة المؤقتة الموروثة عن فترة العمل المسلح ضد الاستعمار، وهي المجموعة التي تنحدر منها مختلف السلطات المتعاقبة في البلاد، والمتهمة بتحريف مسار ورسالة الاستقلال الوطني. وبالرغم من القمع والتضييق اللذين تعرضت لهما العائلة من طرف نظام الرئيس الراحل أحمد بن بلة، فقد شكل انقلاب العقيد هواري بومدين، على الرئيس بن بلة في يونيو 1965، ميلادا جديدا للرجل ولآل الإبراهيمي، التي أعيد لها الاعتبار من طرف نظام بومدين، وألحق أحمد طالب، بأول وظيفة له في الحكومة. تيار الحمائموفيما قضى والده، في إقامته الجبرية ببلدة أفلو بشمال الصحراء في العام 1965، رغم أنه كان الرجل الثاني في جمعية علماء المسلمين، وأحد رواد المشروع الإصلاحي، إلا أن نجله أحمد طالب، تعرض للقمع والسجن خلال حكم بن بلة، ووصف المرحلة في مذكراته بأنها “كانت أبشع من السجن الذي قضيته في زنزانات الاستعمار”. بزوغ نجمه كان في مطلع الثمانينات، عندما خلف وزير الخارجية المغدور به، محمد الصديق بن يحيى، الذي أطيح بطائرته في رحلة وساطة دبلوماسية جزائرية بين العراق وإيران عام 1981، وكان حاضرا في أمجاد دبلوماسية بلاده آنذاك، على غرار الوساطة بين واشنطن وطهران في قضية الرهائن. ومع ذلك شكل تغوّل التيار المناهض للإسلاميين ولانتخابات التحول الديمقراطي داخل السلطة في مطلع التسعينات، خروجا غير مشرف لرموز التيار العروبي والإسلامي في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات، حيث يروي الإبراهيمي أنه لم يستطع إيصال خارطة طريق قدمها القيادي في جبهة الإنقاذ عبدالقادر حشاني، بعد انتخابات الدور الأول لتشريعيات 26 ديسمبر 1991، للرئيس الشاذلي بن جديد، لأنه كان مبعدا تماما عن السلطة، ولا يملك أي قناة تواصل معها آنذاك. وكان قد روى كيف أن حشاني سلمه خارطة طريق سياسية لإنقاذ البلاد من الأزمة التي كانت تتربص بها آنذاك، وتضمنت الخارطة قبول الإنقاذيين بثلاث حقائب وزارية هي: التربية والعدل والشؤون الاجتماعية، مقابل تكليف رئيس جبهة القوى الاشتراكية الراحل حسين آيت أحمد برئاسة الحكومة، واستمرار الشاذلي بن جديد في منصب برئاسة الجمهورية، والإيعاز لقواعدهم بالتصويت في الدور الثاني على مرشحي جبهة التحرير الوطني، بغية خلق توازن داخل البرلمان. وبطرحه للمبادرة يكون الإبراهيمي قد سحب ذرائع قيادة الجيش، في الانفراد بالقرار السياسي بدعوى غياب البدائل والحلول، فالخارطة السياسية التي طرحها للرأي العام، إلى جانب المبادرات التي قدمتها أحزاب سياسية وشخصيات مستقلة وأكاديميون، يمكن أن ترسم معالم مخرج من الأزمة إذا توفرت النوايا الصادقة للأطراف الفاعلة. فالتناغم بين الثلاثي؛ الإبراهيمي، وعبدالنور، وبن يلس، مهّد في بحر هذا الأسبوع لإصدار بيان يطرح رؤية لحل الأزمة السياسية، ويمثل نموذجا سياسيا يتجاوز التصنيفات الأيديولوجية والعرقية والجهوية التي تهيمن على المشهد السلطوي والسياسي في البلاد، ويعبر عن التمسك لسنوات بالقواسم المشتركة بين هذا الثلاثي، رغم أن الأول محسوب على التيار العروبي الإسلامي، والثاني على التيار العلماني الديمقراطي، والثالث من منطقة تلمسان التي استحوذت على مفاصل الدولة بدعم جهوي من بوتفليقة. لقد جاءت مفرداتهم صريحة وواضحة، تدعو المؤسسة العسكرية إلى فتح مشاورات سياسية مع فعاليات الحراك الشعبي ومع القوى السياسية الداعمة له، وبرروا ذلك بحالة الأمر الواقع التي جعلت المؤسسة المحرك الفعلي للقرار السياسي والمصدر الأول للقرار في المرحلة الحالية. ويبقى الإبراهيمي يمثل تيار الحمائم في أوج سطوة النظام الأحادي في البلاد، وصوتا عاقلا في ذروة الانسداد الذي تعيشه البلاد في الأشهر الأخيرة، حيث تشدد طرفا الصراع “الجيش والمعارضة” في فرض تصورات الخروج من الأزمة. ليتشكل بذلك مخرج مشرف للجميع، ويكفل للحراك الشعبي تحقيق مطلبه في التغيير الشامل للنظام السياسي في البلاد.
مشاركة :