نجحت الديبلوماسية السعودية في تحقيق ضبط النفس ورمَّت "الكرة" في الملعب الإيراني، بالإعلان عن رفض سياسة الاستفزاز العسكري والتمسك بالسلام طريقاً لحياة آمنة مستقرة لدول منطقة الخليج، وفي الوقت ذاته عدم قبول أي تمادي في ممارسات تتسم بالغرور والغطرسة من قبل حكومة طهران، ودعت الدول الخليجية والعربية إلى الوقوف على حقائق الوضع واتخاذ موقف حاسم يحمي المنطقة من مخاطر خلق المحاور. وفي المقابل، فإن أقل ما يمكن أن يقال لتوصيف السياسة الإيرانية في منطقة الخليج والشرق الأوسط عموماً، هو أنها سياسة "اللعب بالنار"، إذ تضغط طهران في اتجاه معاكس لما يجب أن يسود في العلاقات بين الدول من حالة استقرار وسلام، منتهزة فرصة أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على أبواب انتخابات الولاية الرئاسية الثانية، خصوصاً أن من صالح خصومه الديموقراطيين، أن يتورط في عمليات عسكرية تؤثر بلا شك على رأي الناخب الأميركي عندما يتوجه إلى صناديق الاقتراع. ويجدر بنا القول، إنه على رغم تهديدات ترامب التي تغلفها العنجهية، إلا أنه يدرك أن ليس من مصلحته الدخول في أي مغامرات عسكرية خارج حدود بلاده الآن، كما أن الخبرة التاريخية من غزو العراق في عام 2003، جعلت أميركا تتعلم درساً يبدو لي أنها استوعبته تماماً، وهو عدم المجازفة بجيوشها في عمليات خارجية مباشرة، لأن الكلفة في هذه الحالة ستكون باهظة جداً. وعليه، نرى أن لا الظروف السياسية المتعلقة بالانتخابات الأميركية المقبلة، ولا المصلحة العليا للولايات المتحدة، تسمحان بخوض حروب تقليدية على أي مستوى. ويبقى الخيار الذي يعتبر الأفضل للمصالح الأميركية، الدفع إلى شفير حرب بالوكالة وتلك طامة كبرى. على أي حال، تعاملَ الجانب الأميركي مع إيران من خلال سياسة أخرى تعرف بسياسة "حافة الهاوية"، وهي مستقاة من فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، وتعتمد على ممارسة نوع من "الردع" ضد الخصم، بشكل يشعره أنه قاب قوسين أو آدنى من التعرض لضربة عسكرية قاصمة. وبذلك، يصبح القرار بأيدي الطرف الآخر المتحكم في آليات الموقف، ما يجبر الخصم على تقديم تنازلات مؤلمة. ولكننا نرى أن الظروف مختلفة جداً اليوم عن حقبة الحرب الباردة في خمسينات وستينات القرن الماضي. حينها، كانت الحرب الباردة بين قطبين، أما الآن فنحن نعيش عصر القطب الواحد وهو الولايات المتحدة، على رغم وجود دول كبرى مثل روسيا والاتحاد الأوروبي والصين واليابان. وكذلك هناك الكثير من المتغيرات الجديدة التي تحكم قرارات الحرب والسلام في عالم اليوم، منها أن عامل المصلحة القومية أضحى بمثابة حجر الزاوية في العلاقات الدولية، بعد انزواء عامل الأيديولوجيا السياسية على مستوى النزاعات بين الدول واستبدالها بالعامل المذهبي، وتعاظم دور الاقتصاد في دعم عامل القوة القومية للدول والشعوب، ولم يعد العدو مباشراً كما كان سابقاً، إذ استطاعت الولايات المتحدة أن تستبدل الشيوعية كعدو، بالتطرف، ومن ثم خلقَ نظام القطبية الآحادية ظاهرة الإرهاب على نحو كبير بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في أوائل التسعينات. وأجبر هذا النظام العالمي الجديد، أطرافاً دولية وإقليمية على أن ترعى التنظيمات الإرهابية خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط. ومن بين هذه الأطراف ايران، ما يجعلنا نؤكد أن طهران في الفترة الأخيرة تشبَّهت بواشنطن في محاولة ممارسة سياسة حافة الهاوية من جانبها ضد جيرانها. لكن الممارسات الإيرانية جاءت بشكل "غير محترف"، فنجدها تراهن على متغير غير مضمون، وهو أوضاع السياسة الداخلية الأميركية وتأثيراتها على نتيجة الانتخابات المقبلة لإزاحة ترامب من البيت الأبيض. عموماً، قد يؤدي التهور والاستفزاز بأي شكل من الأشكال، إلى رد فعل عنيف يزيد من احتقان الموقف، ويؤثر على حالة ضبط النفس لاسيما في ظل وجود أطراف متعددة. ومن أشكال التهور الإيراني – إذا جاز التعبير – الاستمرار في الوقوف الداعم للتنظيمات والجماعات المتطرفة ومنها "جماعة الحوثيين" في اليمن، واستخدامها مخلب قط مكشوف ومعروف الهوية في مواجهة دول المنطقة، الأمر الذي قد يترتب عليه اختلال مفاجئ في قواعد اللعبة في أي لحظة نتيجة الاقتراب – بلا وعي – من حافة الهاوية، ويحنها ربما يحدث ما لا يحمد عقباه. مع هذا، نستبعد نشوب حرب خليجية بالمعنى التقليدي، غير أننا نقول إن الخطر يظل قائماً مع تمسك ايران بسياسة اللعب بالنار. ولا يمكن أن نغض الطرف أيضاً، عن الدور الايراني الخفي أحياناً والمفضوح أحياناً أخرى في تسييس الخلافات المذهبية بين السنة والشيعة في بعض دول الخليج والشرق الأوسط، لخلق صراعات طائفية تؤثر على استقرار ووحدة هذه الدول. وبهذا، تؤدي إيران دوراً رئيساً في سيناريو الفوضى الخلّاقة، الذي يهدف الى تفتيت العالم العربي إلى دويلات صغيرة. ويبقى السؤال الذي اعتدنا طرحه عند تناول أحوال المشهد العربي: أين جامعة الدول العربية من كل هذا الاحتقان في المنطقة؟ وهل مِن فعلٍ عربي يواجه سياسة حافة الهاوية الإيرانية أم سيقف العرب موقف المشاهد؟
مشاركة :