يعتمد مسلسل "إنتي مين" على الكوميديا الهادئة التي تتحول سوداء في جزء كبير منه، ليمدّ حلقة بعد حلقة، صراطاً مستقيماً للدراما اللبنانية، في سبيل انتقالها، من جريرة التفاهة المقنعة بالسذاجة غالباً وقصص الحب المكسيكية الجوفاء والمستعارة، إلى الحقيقة في ملامسة قضايا البلد وهمومه وإنسانه بالدرجة الأولى، لا بالإكتفاء بجولة سياحية بعيداً منها. يؤكد أن زاد العبور لا يحتاج أحمالاً إنتاجية ثقيلة، وأن الأكاديميين الموهوبين هم الأقدر على المسير، وأن أبواب الواقع إذا قرعت يفتحها الجمهور المحلي الذي يشتاق إلى ما يشبهه ويلمس داخله، وأيضاً يدعوه إلى التفكير خلال العرض، وبعد انتهاء شارة النهاية. ويستند نص كارين رزق الله في الواجهة، إلى قصة طبيب أمراض القلب "نسيم" وبائعة الرصيف "جهاد" المتناقضين في المستوى العلمي والطبقي والمجتمعي، والمختلفين دينياً، واللذين يبحثان عن الأم المشتركة والضائعة منذ ثمانينات القرن العشرين، في مواجهة مع أبوين أخفيا الحقيقة عنهما طويلاً. ويرمز في الخلفية إلى رحلة بحث عن وطن نفته حرب ابنائه، وسط خطوط تبحث في الفعل وردة الفعل والإنعكاسات على الصعيد الإنساني قياساً على تجربة ثلاثة أجيال عايشت الحرب وولدت فيها وجاءت بعدها. ليست الحرب هنا "كليشه" أو "أكشن" أو ذكرى بائدة ومؤلمة، بل هي الحدث الذي غيّر وجه البلد وإنسانه في الماضي، والأهم والأخطر أنها احتمال مستقبلي. ويظهر كل ذلك أمام عدسة المخرج إيلي ف. حبيب في تصرفات وكلام "جيل الحرب المسروق"، نماذجه "أسعد" و"عايدة" و"نجوى"، إذ سرقت الميليشيات وزعماؤها مستقبلهم، وحولت أيامهم بعدها فراغاً. الأول خسر عقله ويعيش عذاب الأمس في يومه وكوابيس اليقظة، بينما الثانية حُرمت أن تعيش مع من تحب لأنها تجاوزت "خطوط التماس"، ففقدت ربيبها وابنتها. وأما الثالثة فحملت عكازاً في طريق عودتها من الحرب حيث تركت قدمها المبتورة. ومع سير الأحداث تتلو هذه الشخصيات فعل الندامة. يقول "أسعد" المقاتل السابق في اليمين اللبناني: "دخلنا الحرب كرمال القضية، طلعت كذبة، طعمونا الضرب"، جملة تكررها لاحقاً "نجوى" المحاربة في المقلب الآخر. وتحاور "عايدة" نسختها المقاتلة اليسارية في المرآة، توبخها لنزح اللباس العسكري كي لا تضيع أحلامها، هي تنهر الماضي كي لا يخظئ المستقبل، على مبدأ "ما متت... ما شفت مين مات؟!". وتنسحب مخالب الحرب على الجيل الحالي من متعلم مثل "البروفيسور نسيم" ومن هو دونه بلا تمييز مثل "جهاد". كلاهما يتجرع مع مرور كل يوم حقيقة ناقصة، كلما اكتشف جزءاً منها عرف كذب الرواية التي في ذهنه، وتكسرت الأصنام في ذهنهما، والأسوأ أنهما فاقدان للهوية، عليهما أن يبحثا عن أميهما، قبل أن يكسرا القيود التي تمنع اكتمال الحب بينهما. ولا تقف جروح الحرب هنا، بل تتفشى في منزل "غادة" وزوجها "مروان" الموظف الشريف الذي يرفض الرشوة، فكاد يخسر ساقه كما خسرتها "نجوى" من "أجل زعماء لا يساوون رجلها"، إنما بسبب الفاتورة الطبية المستعرة، الأسباب تختلف والنتيجة واحدة. وتستمر النتائج على جيل المستقبل، فابنة "نسيم" تكاد تنحرف نتيجة ضياع والدها، وأبناء "مروان و"غادة" يعانون الفقر، فتركع نظراتهم ليصفعهم حرمانهم، أمام فحش الموظف المفاسد ومقدراته الباذخة والصارخة أمام أعينهم. ويتحول أبطال القصة، بأداء الممثلين عمّار شلق وكارين رزق الله ونقولا دانيال وجوليا قصّار وعايدة صبرا وأسعد رشدان وأنجو ريحان وشربل زيادة وسواهم، إلى شخصيات من لحم ودم، من العامة التي تمشي على الأرض، لا من القلة المعزولة في أبراج عاجية. وتتميز حواراتها السلسة رغم بعض المباشرة في جزء يسير منها، باستنادها على المفردات الحقيقية والمستخدمة حقيقة خارج الإدعاء، مثل "احترنا يا قرعة"، و"تبقطي" و"قحط" و"ما بتعرف مع مين عم تحكي" و"زمك" وسواها. ولعل أكثر المشاهد شجاعة، هو محاولة منع "نسيم" ابنته القاصر من الخروج من المنزل للسهر مرتديةً ملابس مبتذلة، إذ أصبحت الحشمة مذمة صوتها خافتاً، والعري انفتاحاً في سائد هذا الزمن. ويفرد النص للشخصيات، الخطوط والأحداث والمواقف لإظهار كراكتيرات "على المسطرة" بلا مبالغة ولا إقلال، بل تبدع وتفرض الإقناع في لغتها وحركتها وأدواتها، في نوع من الأداء لا ينجح بلا بناء دور على يد "ممثل حرّيف" وإدارة دقيقة من المخرج، فالإكسسوارات تصبح أداة درامية مثل عكاز "نجوى" ورجلها الغائبة حاضرة أكثر من أداء "فنانات كثيرات" وتجاعيدها أجمل منهن حقاً، ونوبات "البطل اسعد" تثير الحيرة بين الضحكة والدمعة، ومونولوغ "عايدة" جرس إنذار وقوة كيانها ضعف "لبوة" جريحة في عمل يمثل لكارين رزق الله تجربتها الكتابية الناضجة درامياً والأفضل بقلمها حتى الآن، رغم القليل القليل من الحشو لتوزيع القصة على ثلاثين حلقة.
مشاركة :