من جديد تواصل الصحافة الأمريكية، تسريباتها عن تغيير الخرائط العربية، الطرق القاسي على وجدان الإنسان العربي وبلا رحمة. فهشاشة اليقين العربي بتماسك نسيجه الاجتماعي وكياناته وصلت اليوم الى أدنى مستوياتها..! ذلك أن الأذن الشعبية العربية لا تزال تعاني من طنين صدى مفهوم الخرائط، الذي أحدثته عاصفة «الصدمة والترويع»، التي شنتها الإدارة الأميركية السابقة، على العراق وجواره العربي، عسكرياً وسياسياً ونفسياً. فالحديث الأميركي، الذي تلا الصدمة والترويع، عن تغيير خريطة المنطقة، وعن «الشرق الأوسط الكبير»، والذي دعمته تسريبات، عسكرية وأمنية وسياسية آنذاك، عن فك خرائط دول عربية وإعادة تركيبها، لم ينته بعد، ولم تخب آثاره في وجدان الناس، بل إن بعضها يكاد أن يتلمسوه في كل خطاب غربي يخص شؤون البلدان العربية. وفي هذا السياق، فإن حديث تغيير النظام الإقليمي أيضاً في المنطقة، ومنها الكتلة الجغرافية والبشرية العربية الأكبر، وما يتصل بها من قضايا أساسية، لا يزال حاضراً في أذهان الناس. ويزداد حضوراً، برأي المتابع والمراقب لأحوال المنطقة، في ظل الثورات الشعبية العربية، التي يعاد فيها بناء مجتمعات وأنظمة سياسية من جديد، بشكل سلمي وعنيف، على حد سواء. والحق، أن ذاك الذي يسمى ب«عالم الخرائط» هو مكتومٌ وملتبسٌ، إلى حد كبير. فالخريطة، في جوهرها، كذبٌ صامتٌ، أو «الكذب بالصمت»، كما يقول «جان كلود غوشنس». إذ إنها تختصر وتختزل مساحات شاسعة، من الأرض والبحر والكائنات، في مساحة صغيرة جداً، مع ما يرافق ذلك الاختزال من التضحية بمعلومات وفيرة، عن ذلك الجزء المصور أو المعبر عنه بالخريطة. فصناع الخرائط، يظهرون ما يريدون من عناصر الواقع، ويحجبون ما يرتؤون، بشكل تبدو فيه الخرائط وكأنها تعبير عن رؤيتهم للعالم وحساسياته ومشكلاته. إذ بالرموز والاختصارات والخطوط يحجب هؤلاء الكثير من الصراعات والمشكلات والحقائق. ومخطئٌ من يظن أن هنالك «صورة رسمية للحدود والتقطيع السياسي للعالم». فالحدود السياسية، في حقيقتها، أمرٌ أخطر من أن يعرض في خرائط، ويحمل في طياته مغامرة محفوفة بالمخاطر. وخير دليل على ذلك هو الحذر والتحفظ، الذي تؤكده مراكز الخرائط، التابعة لإدارات الأمم المتحدة المختلفة على خرائطها، بأن «تصوير الحدود هو تصوير رمزي، لا تتحمل الأمم المتحدة مسؤوليته». وكذلك يفعل البنك الدولي، حين نصح مراكز إعداد الخرائط العاملة فيه، قبل سنوات، وتفادياً للحساسيات، ب«إظهار أية أشياء دقيقة، تتعلق بمنطقة كشمير، على خرائط شبه الجزيرة الهندية». ومعنى ذلك، دولياً وإقليمياً، أن الدول والكيانات السياسية ليست، في واقعها، كما تظهرها الخرائط، كحال الهند، كما تراها الهند، التي لا تتطابق مع الهند، كما تراها باكستان، أو مع «الصين، كما تراها الصين، التي لا تتطابق مع الصين، كما تراها الهند». أما في العالم العربي وجواره، فحدث عن الخرائط ورؤى صناعها ولا حرج، وذلك من دون إقحام عقدة فلسطين التاريخية و«الدولة العبرية». فمن الخليج العربي وجزره، إلى العراق و«عربستانه»، إلى سوريا و«اسكندرونها» و«جولانها»، إلى مصر و«حلايب وسينائها»، إلى السودان و«أقاليمه»، الذي أنجز أول مراحل تشظيه إلى سودانين، إلى المغرب و«صحرائه وبره الإسباني(!) وجزره»، إلى آخر ما للعرب من «جغرافيا غامضة»، تخفيها الخرائط، كلها صورٌ يراها أصحابها كما لا يراها غيرهم من جوارهم. وبتنوع الخرائط، وتعدد أشكال «الديكور» الرمزي فيها، تتزايد وظائفها وأدوارها، ففيها تبرز وتختفي علاقات البشر بالأرض التي يعيشون عليها، وما يرسمه ذلك من صراعات فعلية أو محتملة. فعلى الخرائط، تماماً كالشطرنج، يتموضع اللاعبون والمحاربون والقلاع والضحايا، وفيها تختفي الأسئلة الحقيقية، عن الناس العاديين، ولا تراها سوى عيون المجربين والمتمرسين. تلك العيون، لا تنظر إلى الخرائط بأي تقديس، حتى لو علقت أشكالها في الأعناق، من قبل أصحابها، على هيئة ذهب أو فضة. فخطوط الأوطان المقدسة، عند أصحابها، يراها هؤلاء، على الخرائط، بعيون نسور محلقة، فتتحفظ عليها في الوهلة الأولى، ثم تقنع بصائرها بأنها غير حقيقية، وبعدها يبدأ التحضير لولائم «الخرائط الكبرى». تماماً، كما يحدث اليوم، في «غرف الخرائط العسكرية الأطلسية» الغامضة، التي تمتلئ «عيوناً متحجرة»، تراقب الخلخلة العربية، الاجتماعية والسياسية، لا بصفتها ثورات شعبية، بل باعتبارها زلازل جيو سياسية عسكرية، تقضي بالتهيؤ لرسم خرائط جديدة، وفق شبكات مساحية و«جيوديزية» سياسية مختلفة. فتلك شعوبٌ تشرف على بحار أربعة، ليست كأي بحار. فالبحر المتوسط، والأحمر، والخليج «العربي»، والبحر «العربي الهندي»، وبما تمسك به من أعناق مضائق، «مضيق هرمز، وشط العرب، وباب المندب، وقناة السويس»، كلها تشكل شبكة العبور الأساسية، لموارد النفط والغاز والمعادن، نحو جهات العالم الأربع. وهي أخطر من أن تترك شؤونها إلى شعوبها الثائرة، او المنفلتة. وهو بالذات ما يرى فيه خبراء استراتيجيات «تفصيل» الخرائط ورسمها «وليمة كبرى»، تعهد بها السماء إليهم وحدهم. ما يجعل الأمر مهمة رسولية، وتحتاج إلى «أنبياء» تاريخيين، أكثر من حاجتها إلى متخصصين في رسم خرائط إقليمية. ألم يقل «روبرت غيتس»، وزير الدفاع الأميركي، الذي غادر موقعه، عشية ثورة مصر الشعبية: إن «الثورات، التي تهز الدول العربية.. تشكل أكبر موجة تحولات منذ سنوات الاستقلال، وربما حتى منذ سقوط الدولة العثمانية»؟! وهكذا يفيض مكتوم الخريطة على ما عداه من «ما هو مباح». فيكذب المكتوم، من تلك الحقائق، كل ما سواه من حقائق التاريخ والبشر، ولا عزاء لمن صدقوا ورق الخرائط يوماً، وعلقوها في أعناقهم، ذات نشوة وطن! ليبقى هذا الوطن العربي الممتد مواراً وفواراً ويحيا راهنه؛ "على قلق كأن الريح.." تحته وفي جغرافية حدودها أكثر غموضاً من مستقبل أصحابها..!؟ * وزير إعلام ونقيب سابق للصحافة - الأردن
مشاركة :