لا يستشعر قيمة أي المذاق ذي الخصوصية الفريدة، إلا هؤلاء الذين شاءت الأقدار أن يُحْرَموا منه، فأين هي تلك النفخات التي تهب فتملأ النفس والقلب والوجدان، بهذه المشاعر التي تأتي من عالم روحاني، لتحملنا على أجنحة من أثير إلى عالم سماوي بهيح، في تلكم الأيام المباركات، والتي ما أكثرها حيث نقشتها نقلا في أعماق أعماقنا عقائدنا وموروثاتنا الثقافية والدينية.إن أكثر الأحاسيس ألما هي التي تعتري المغتربين بعيدا عن أوطانهم، والتي تكاد تعصف بهم عصفا، وتترك في النفس وحشة وفي القلب وجعا، وفي الأحشاء جرحا وفي الروح حنينا مقيما، هي تلك الأحاسيس المرتبطة بالاحتفالات التي لها رصيد عقائدي، والتي تُصْبَغُ فيها مصر على وجه الخصوص بصيغة فريدة، لا يُعْرَف فيها لا طائفة ولا انتماء ضيق، يتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في عيد القيامة " شم النسيم " الذي له ارتباط عقائدي وثيق عند إخواننا الأقباط، وشهر رمضان وعيد الفطر والذي هو حالة خاصة عند المسلمين؛ إن الاحتفال في مصر بهاتين المناسبتين هو ما يُظْهِر تلك الحقيقة التي استطاعت بعض الجماعات إخفاءها، وهي حقيقة النسيج الاجتماعي الواحد لهذا الشعب العظيم، والذي يتجلى في مظاهر عدة، تأتي على رأسها هاتان المناسبتان.يظل لعيدي الفطر والأضحى المباركين في نفس كل مسلم المكانة العالية، فهما العيدان اللذان تطغى مظاهرهما عما سواهما من أعياد، تلك المظاهر التي يكون للأطفال فيها نصيب وافر، كما يكون للأقارب نصيب كبير، وللجيران تبادل مما يميز هذا اليوم من حلوى ومخبوزات خاصة، ويكون للأصدقاء وقت فيها معتبر وللمعارف التهاني والأمنيات.وقبل كل ذلك تأتي ساعة الصلاة في وقت باكر من اليوم تكتسي الوجوه بالبهجة وتتضرع الألسنة بالدعاء، وتتمنى القلوب قبول الأعمال، ويحاول المسلمون في كل دول العالم أن يسعدوا بتلك الاحتفالات وهاتيك المظاهر، ويجتهد المغتربون - خاصة في الدول غير العربية والإسلامية- اجتهادا شديدا في أن يحتفلوا بهاذين العيدين، وأن يصنعوا مجتمعات تحقق لهم بعض السعادة النسبية في مثل تلك المناسبات، ولقد نجحوا في الإتيان بالعبادات فيصلون في المساجد التي يحرص على إقامتها المسلمون الذين غادروا بلدانهم الإسلامية كل حسب ما دفعه لهذه المغادرة، فيلتقون في تلك أماكن الصلاة مكبرين حامدين الله على أن بلَّغهم تلكم الأيام المباركات، متمنين الخير لهم ولذويهم ولبلدانهم.كما يحاول هؤلاء المسلمون أن يخلقوا جوا من الفرحة ليستشعر أطفالهم قيمة هذا اليوم وليغرسوا في نفوسهم أن لهذه الأيام خصوصية لدى المسلم، فينجحوا قليلا قليلا، حيث البيئة هي ما يصبغ الفرحة، وحيث المظاهر التي تتميز بها البلدان الإسلامية وعلى الأخص مصر، لا يمكن توفرها، ولا صُنْع مظاهر قريبة منها، ثم قبل كل ذلك أين هم الأهل الذين حُرِم منهم المغترب وخاصة الجيل الجديد منهم، فمهما ارتبطت بعض الأسر بعضها البعض يظل الفرع في حاجة إلى الساق الذي هو ما فتأ ينشد الجذر، وهنا ربما يكون ثمة قضية نفسية يمكن أن يفيدنا فيها علماء الاجتماع، وهي نشأة الجيل الثاني والثالث من المصريين بعيدا عن العائلة بمفهومها الضيق مرة ومفهومها الكبير " أعني الوطن" مرة اخرى، تلك القضية التي أظن أنها في حاجة إلى درس وبحث، لنحصل على ما يمكن أن يكون خريطة طريق للسير عليها في المستقبل مع الأجيال القادمة، وهو ما أظن أن بعض القوميات قد عملت عليه بالفعل.نأتي بعد ذلك إلى قضية تطيح بالكثير من السعادة في الاحتفال بالعيد في المغترب، وهي ذلك الاختلاف بين القوميات المختلفة، في تحديد يوم الاحتفال بالعيد، التي تتبع كل قومية وكل جنسية فيه بلد منشأها، فنجد الاحتفال بالعيد موزعا بين أيام أو على أقل تقدير يومين - اقصد هنا عيد الفطر - وأوضح مثال على ذلك ما تم في أوربا في عيد الفطر الحالي حيث أعلنت المملكة العربية السعودية وغيرها من دول بأن الثلاثاء هو أول أيام عيد الفطر المبارك وأعلنت مصر وبعض الدول أن الثلاثاء هو المُتمم لشهر رمضان، وأن الاربعاء هو أول أيام عيد الفطر.فانقسم المسلمون فريقين: الأول - وهو أغلبية المسلمين - يحتفل بالعيد مع المملكة العربية السعودية، والأقلية هم الذين سيتبعون دولهم العربية مثل بعض المصريين. لتتبدد الكثير من المعاني الجميلة التي يستشعرها المسلمون حال اتفقوا جميعا على يوم واحد يحتفلون فيه بالعيد، أفلا يستدعي ذلك جهودا مضاعفة من فقهائنا! في محاولة لتوحيد - على الأقل - بدايات الشهور حيث أن تلك الفرقة تصب في عدم اكتمال الفرحة التي ينقصها الكثير في الاحتفال بالعيد بعيدا عن الديار.
مشاركة :