ترى الكاتبة المصرية صفاء عبدالمنعم أن الشعور الشديد بالحزن يصبح موتًا داخليًّا "شراع تأتي مرتعشًا، تخط شراعًا غير مخطط له، كأنك الليل الذي لا يأتي! كأنك السماء التي لا تنتهي! قبة صفراء داكنة تلك، حديقة بيتك تنتمي إلى أغنيات المساء، وضحكات عجوز يعض على إصبعيه. ذاك أنتَ أيها العجوز الصبي، أيها الصبي العجوز". وقالت: لم أكن أعرف أنها ستظل تناديني وتجذبني من رأسي أحيانًا ومن أذني أحيانًا أخرى (إنها الكتابة) تلك الشقية التي تعرفت عليها منذ ما يقرب من 37 سنة تقريبًا (النداهة التي ندهتني) وهي إلى الآن ترافقني بلا رحمة. نلهو معًا أحيانًا (مثلما حدث في قصة "يوم عاصف" من مجموعة حكايات الليل عام 1984)، وكانت البداية، ويغضب بعضنا من بعض أحيانًا كثيرة كما في رواية "ريح السموم"، و"امرأة الريح"، و"في الليل لما خلي"، و"التي رأت"، و"بيت فنانة"، وكثيرًا ما نلتقي، فنتقاسم الضحكات الصاخبة والمرحة أحيانًا أخرى في مجموعة "بنات في بنات"، و"سيدة المكان"، و"الليالي"، و"أحضان بيكاسو"، ولكنها لم تتركني أبدًا، في أفراحي ترافقني، وفي أحزاني تجلس إلى جواري مثل قط أليف. تظهر لي، ويبدو وجهها البشوش وتناديني "مش في أحزان كتير عدت من قبلها" جملة صلاح جاهين دائمًا تذكرني بها كلما وقعت في بئر الحزن أو الهموم، فأضحك، وتأخذني من يدي ونقرأ معًا "نجيب محفوظ ويوسف إدريس، ولوركا، وكونديرا، وماركيز.." تدخلني عالم السحر والخيال، وعندما أكتب قصة وأنشرها، أو تظهر لي رواية بالأسواق ولا أحد يهتم بها ولا يناقشها، فأغضب وأتوقف عن الكتابة. تشدني من أذني مثل طفل بليد وتهمس لي همسًا صاخبًا "احنا بنكتب من أجل الحياة" فلا تحزني، فأصمت وأوتشير صفاء عبدالمنعم إلى أنها صارت والكتابة صديقتين حميمتين، وتقول عن الكتابة: عوضتني عن فقد الزوج والأم والأصدقاء، نجلس معًا في ليالي الشتاء الطويلة هي تحكي لي حكاياتها مع الكتاب الكبار، وكيف حصلوا على جوائز عالمية كثيرة، فأغضب منها وأنهرها، وأنا أتدلل عليها وأقول لها بصوت هامس "وهل أمثالي يا صديقتي الكتابة في بلدنا هذه سوف يحصلون على جائزة نوبل، أو أي جوائز عالمية أخرى" تمسكني من يدي وتعطيني بركتها فأكتب "امرأة الريح" وتشطح بي الأفكار وأكتب رواية عن كاتبة حصلت على جائزة نوبل بالفعل، وأصيبت بالزهايمر، فأغضب منها وأقول لها: يا حبيبتي أريد جائزة حقيقية، البنات كبرت وعايزين نجهزهم. تضحك، وهي مني ساخرة، وتقول لي وهي تقرص أذني: يا صفاء وقتها يحلها ربنا، هو أنا في يوم من الأيام تخليت عنك؟ وبعدين ربنا موجود.. يرزق من يشاء بغير حساب. ويظل وجهها البشوش يرافقني، حتى ينزاح عني الهم، إنها تؤم روحي ورفيقة الدرب.. إنها الكتابة. وتضيف عبدالمنعم: لم تكن تعرف تلك الطفلة التي (كنتها) ذات يوم بعيد وهي تجلس على السرير الحديد وسط إخوتها الذكور وهم يستمعون إلى حكايات الجدة، وهي تصب لهم الشاي باللبن، وتحكي لهم الحكايات القديمة عن (ست الحسن والجمال، وأمنا الغولة، وجنية الساقية، ونص نصيص، وبير زويلة) وغيرها من الحكايات الكثيرة المسلية، وتصور لنا كيف أخذ الشاطر حسن ست الحسن على حصانه الأبيض وطار بها بعيدًا عن بيت أمنا الغولة، ونغني ونحن نلعب: أمنا الغولة طقطقي الفولة. ظلت تلك الطفلة الصغيرة، تحلم وتحلم، وتصنع عقدًا كبيرًا من الحكايات، وتخزن في ذاكراتها الكثير والكثير. وتتذكر قائلة: كان أخي الذي يصغرني بخمس سنوات تقريبًا هو المهيأ للكتابة، حيث كان يؤلف للأطفال حكايات غرائبية وخيالية عن لعبه مع الأسد في الغابة، وكيف ينام وحيدًا وسط الوحوش من شدة التعب، وآخر الليل يأتي أبي ويحمله إلى البيت، كي ينام على سريره، وكان يظل ينسج بخياله حكايات طويلة وبارعة للأطفال، وهم يصدقون حكاياته إلى أن كبر ذات يوم، وجاء يحكيها لهم فنهروه بعنف، واتهموه بالكذب، وأنه ينخع ولا شيء من ذلك يحدث له، فتوقف عن نسج الحكايات، وصمت، صمت طويلاً. كنتُ أنا الكبيرة العاقلة التي لم تبُح لأحد عن أسرارها، ولا تروي أحلامها، فقط كنتُ أخزنها بداخلي لوقت غير معلوم، ولا أتحدث مع أحد، ولا أحكي حكايات غريبة مثلما فعل أخي ذات يوم. وكبرنا، ولا كنتُ أعرف أنني سوف أكون تلك الكاتبة التي ندهتها النداهة في يوم من الأيام. إلى أن جاءت الكتابة وطرقت الباب ذات يوم عاصف، من أيام الخريف في عام 1982، وأمسكت القلم وكتبت، كي أسجل أولى الخيبات في الحب، وكيف تركها وسط العاصفة بمفردها في الشارع وحيدة تواجه الريح العاتية. تغلق عينيها وعندما فتحتهما بعد لحظات. كان قد اختفى تمامًا، وترك لها جرحًا لا يندمل، وقلبًا محطمًا، ومن لحظتها، فقدت الثقة في كل الرجال.. جمعاء، واعتزلتهم لسنوات طويلة، وانهمكت في العمل والكتابة. حتى ظهر لها نجم ثاقب ذات يوم من أيام يناير الباردة من عام 1988، وكتبت "تلك القاهرة تغريني بسيقانها العارية" عام 1990، واختفى الزوج ذات مساء من عام 1999 وترك لها بنتين صغيرتين. وكان على السلحفاة التي أصبحت طوطمًا، أن تحمل فوق درقتها طفلتين، وتواصل الكتابة "بنات في بنات" عام 2000، وتظل ساهرة طوال الليل أمام السماء المفتوحة و"النداهة" تجلس أمامها تحدثها وتواسيها. كم هو ممتع أن تخرج من حالة الحزن والوحدة برواية "من حلاوة الروح" كتبت بالعامية المصرية. الكتابة للأطفال وعن تجربتها في الكتابة للأطفال تقول صفاء عبدالمنعم في شهادتها الأدبية التي قدمتها لملتقى القاهرة الدولي السابع للإبداع الروائي في جلسة ترأسها الكاتب السعودي يوسف المحيميد: ونحن أطفال صغار في الستينيات، وبعد هزيمة 67 وحرب الاستنزاف، كانت أصوات الغارات ترعبنا وبخاصة صفارة الخطر عندما تضرب، كنا نختبئ خلف جدتي خائفين، ولا نخرج من خلفها إلا بعد سماع صفارة الأمان، كنا نطير ونجري مثل العصافير مرفرفين بأجنحتنا الصغيرة ونردِّد في الشارع: هنحارب، هنحارب. وأمي تدهن زجاج نوافذ البيت باللون الأزرق، وننظر بأعيننا الطفولية نحو الزجاج الذي يبرق بريقًا خاطفًا كي نعرف متى ينتهي الخطر، ونبني حائطًا عاليًا أمام باب البيت من الخارج، ونضع فوقه شكائر من الأسمنت، ونسمع صفارة الأمان، فنخرج إلى الشارع مهرولين، فرحين. الأمان كان في اللمة الحلوة ونحن نصنع بأيدينا الصغيرة مع الأيدي الكبيرة كعك العيد، ونظل طوال الليل مستيقظين حتى نسمع صوت المسحراتي وهو يدق على طبلته ويردد بصوت مبحوح باكيًا "ما أوحش الله منك يا شهر رمضان"، ونخرج إلى الشارع في اليوم التالي نمسك بأيدينا الفوانيس الملوَّنة، ونغني: ادونا العادة رب يخليكو. ويأتي العيد ويرحل، ولسنوات طويلة لا نعرف سوى الحكايات الممتعة من أفواه الجدات الكبيرات، ورغم ذلك كنا أطفال سعداء، مرحين ومحظوظين، نلعب ونغني الأغاني الجميلة في الشارع مع أبناء الجيران، فكان لا بد من توثيق هذه الأغنيات، فجاء كتاب "أغانٍوتواصل صفاء عبدالمنعم الإدلاء بشهادتها الأدبية فتقول: توالت الحكايات، والقصص، وجمع التراث، وإلى الآن أنتهز أي فرصة أكون فيها وسط الأطفال الصغار، فأجلس بينهم أحكي لهم الحكايات الجميلة، مثلما كانت تفعل جدتي منذ أعوام طويلة، فأقمت ورشًا للحكي للأطفال منذ عام 2011، وورشًا لتدريب التلاميذ الموهوبين، كي أرد للنداهة التي ندهتني منذ 37 سنة تقريبًا، بعض المعروف الذي صنعته معي، وأربي أجيالاً جديدة مبدعة. وألعاب شعبية للأطفال"، عام 2004، وتبعها بعد ذلك كتاب "سفينة الحلوى"، وقصص كثيرة للأطفال. ورحلت الجدة، وأخذت حكاياتها معها. عود، وأمسك الورقة والقلم وأكتب "حديث مع كافكا" فتفرح، وتضحك وتأخذني في حضنها الواسع الكبير.
مشاركة :