قراءة في فلسفة التسامح.. الفكرة والمبدأ والأسلوب

  • 6/23/2020
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

إذا ما نظرنا إلى التاريخ الإنساني وجدنا أن إحساس الإنسان بجنسه وقوميته أشد من إحساسه بإنسانيته، لأن كثيرًا من الأحداث التي تقع في العالم تفتقر إلى التسامح، وذلك ناتج عن العزلة القائمة ما بين الأديان، والثقافات والمجتمعات الإنسانية.. ينظر المفكر الفرنسي فولتير إلى أن التسامح السجية الملازمة لكينونتنا البشرية مطلقًا عبارته الشهيرة: إننا ميالون للخطأ فلنتسامح ونتقاسم الحياة مع العالم. ففكرة التسامح تتسع دائرتها حينًا وتضيق أخرى بقدر ما يسمح به الإنسان أو الثقافة أو العقيدة أو المجتمع.. لقد تتبع المفكر الأميركي واشنطن إرفنغ في كتابه قصر الحمراء في الأدب والتاريخ.. قصة التسامح الإسلامي في الأندلس مؤكدًا على قدرة الثقافة العربية والإسلامية في استيعاب مختلف الثقافات في الأندلس، والتي جمعت ما بين الغرب الأوروبي المسيحي الآري، والمشرق العربي الإسلامي واليهودي المضطهد من الأوروبيين الإسبان، وشكلت ولادة مجتمع جديد يقوم على التسامح، والتي أحالت أرض إيبريا إلى فردوس على حد وصفه. والتي يرجعها أرفنغ إلى تسامح العقل العربي الإسلامي مع تلك الجماعات الإنسانية. فإذا ما نظرنا إلى التاريخ الإنساني وجدنا أن إحساس الإنسان بجنسه وقوميته أشد من إحساسه بإنسانيته، لأن كثيرًا من الأحداث التي تقع في العالم تفتقر إلى التسامح، وذلك ناتج عن العزلة القائمة ما بين الأديان والثقافات والمجتمعات الإنسانية.. فالتسامح يقوم على الجذر الأخلاقي، ويمنح مصداقيته في الذات الإنسانية المتصفة به والمتماهية معه، والتي لا تجد نفسها استثناء أو قيمة مضافة على الآخرين فالإنسان الذي يتسم بالانسجام الأخلاقي يمنح ذاته المتسامحة للآخرين. وفي هذا يؤكد د. ميثم الجنابي أستاذ الفلسفة في جامعة موسكو إلى أن التسامح إحدى القضايا الأكثر جوهرية للرقي الإنساني الحقيقي القادرة على بناء التجانس الفعلي في كينونة الفرد والجماعة والثقافة تجاه النفس والآخرين، وهي مهمة يتوقف تحقيقها على مستوى تأسيس حقيقة التسامح، وبما أن التسامح هو شكل التعايش العقلاني للقيم فإن مهمة تأسيس منظومة القيم وتعايشها الطبيعي تصبح الصيغة العلمية الضرورية للتسامح نفسه. فعندما ننظر على سبيل المثال إلى الثقافة الإسلامية في مجرى تطورها التاريخي، وازدهارها فإننا نرى الانتقال التدريجي، والتراكم النوعي في مواقفها من النفس، والآخرين بمعنى أنها مرت بدروب المعاناة الفعلية في قبول الخلاف والاختلاف، وارتقت إلى الدرجة التي جعلت من قبول إنجازات الأوائل والأواخر والتفاعل معها نموذجًا شاملًا كما نراه على سبيل المثال في الموقف من الثقافات والأديان والأقوام (الأمم)، ففي مجال الرؤية الثقافية ارتقت إلى مصاف تصنيف الأمم على أساس موقفها من العلوم والفلسفة وفي مجال الأديان ارتقت إلى مصاف بلورة وصياغة نظرية التسامح الروحي في الموقف من الأديان، وهو إقرار بالتنوع نابع من سمو الروح. فمن الناحية التاريخية والثقافية تمتلك الأمة العربية تراثًا إنسانيًا هائلًا في مجال تأسيس رؤيتها الخاصة عن التسامح، ولعل الإسلام هو نموذجه الأكبر لتمتعة بالقيم القادرة على جذب وإشراك وتمازج وتكامل مختلف الشعوب والأقوام في حركة أممية واحدة استطاعت في غضون قرون عديدة إبداع إحدى أعظم الحضارات التاريخية الإنسانية، وفي مجرى تطورها الذاتي استطاعت أن تبدع منظومات علمية وعملية رفيعة المستوى من حيث تأسيسها لفكرة الحق والعدالة والانفتاح على علوم الأوائل والأواخر، والأهم من ذلك أنها استطاعت أن تنجز الفعل التاريخي الأكبر في تاريخ العرب ألا وهو صهر تكوينهم في بيئة ثقافية أي إبداع أمة ثقافية، وليست عرقية من حيث مقوماتها وغاياتها، وهي نتيجة تحتوي في أعماقها على تأسيس ذاتي للتسامح من حيث كونه فكرة، ومبدأ وأسلوبًا وقيمة، وهو تأسيس ارتقى من الناحية النظرية والفعلية إلى أحد أنقى وأجمل مظاهره التاريخية والإنسانية، وما دمنا على طريق التسامح الإنساني. لنتوقف عند هذه القصة الإنسانية التي تدور حول جيمس سمون، والذي هاجر من إنجلترا إلى الولايات المتحدة الأميركية إلا أنه بعد فترة من هجرته أبعد من أميركا فغادر إلى إيطاليا، وكان رجلًا ثريًا وقبل وفاته تبرع بثروته للولايات المتحدة الأميركية فلما توفي جاء أعضاء من الكونغرس الأميركي، وتسلموا الثروة وتخليداً لذكراه واعترافًا بتسامحه للبلد الذي نفاه أنشأت الحكومة الأميركية مركزًا للأبحاث العلمية في التاريخ والفن والثقافة والعلم، وأطلقت عليها اسمه Smithsonian Institution ويرتبط بهذا المركز متاحف فنية وتاريخية وطبيعية.

مشاركة :