النقد الضائع بين الإطراء والذم في واقع غير صحيمفيد نجمقراءة تاريخ الثقافة عموما والأدب على وجه التخصيص تدل على أن هناك أسبابا عديدة، سياسية وفكرية وشخصية تقف في خلفية نشوء ظاهرة الشللية واستمرارها.يذهب البعض في قراءته للواقع الثقافي الراهن إلى تفسير بعض الظواهر السلبية فيه من خلال عوامل لا يبدو أنها كافية لتفسير نشوئها واستمرارها. وهو ما نجده مثلا في تناول ظاهرة الشللية التي سيطرت على الحياة الثقافية العربية.من القراءات القاصرة في الساحة الثقافية العربية الربط بين ظاهرة الشللية وغياب النقد، وكأن استعادة النقد لحضوره في الحياة الثقافية العربية كاف للقضاء على هذه الظاهرة، واستعادة الحياة الثقافية لعلاقاتها الصحية والموضوعية.إن هذه القراءة تسكت عن جانب هام يتعلق بظاهرة الشللية، التي كانت وما زالت موجودة في جميع مراحل حياتنا الأدبية، سواء مع وجود النقد أو عدم وجوده، ومع تفعيل هذا الدور أو تراجعه، لأن الأسباب الموضوعية لظهور الشللية في الحياة الثقافية كثيرة، والنقد سواء كان حاضرا أو غائبا ليس المسؤول عنها، بل يمكن أن يكون في بعض ممارساته جزءا من أسباب نشوء هذه الظاهرة واستمرارها حتى الوقت الراهن. وأدى انفتاح النقد العربي الحديث الواسع في العقود القليلة الماضية على الاتجاهات النقدية الغربية وتفاعله مع مناهجها المختلفة، إلى ظهور نشاط نقدي عربي أكاديمي وغير أكاديمي لم يكن موجودا في العقود القليلة الماضية، وهو ما جعل حجم الكتب النقدية التي تصدر في كل عام تبلغ مستويات لم تكن معروفة في ما مضى، الأمر الذي يدل على توسع حضور النقد في المشهد الثقافي وليس العكس.أما إذا كان المقصود بغياب النقد هو دوره المنهجي والعلمي في مقاربة المنجز الأدبي، فإن هذا الدور منوط بالناقد وأخلاقياته في التعاطي بموضوعية مع هذا المنجز أو ذاك. كذلك يتحمل المنهج الذي يتبناه الناقد دورا مهما في تحديد درجة موقفه من النص، كما كان يحدث في المراحل التي كان يسيطر فيها النقد الماركسي على الأدب. لذلك فالمشكلة ليست في حضور أو غياب النقد، وإنما في حضور أو غياب العلمية والموضوعية في توظيف هذه المناهج وقراءتها في النصوص الإبداعية.لكن إذا افترضنا أن هذه العلمية قد تحققت، فهل تكفي وحدها للقضاء على هذه الظاهرة، والوصول بالواقع الثقافي العربي إلى مستوى غير قابل للقسمة على عدد الشلل التي تحكم علاقاته وعلاقة النقد بالأدب. إن ما نحتاجه في دراسة أي ظاهرة هو تفكيك بنيتها وعناصرها المكونة لها، حتى يتم فهم الآليات التي تتشكل على أساسها، والدلالات التي تنطوي عليها، وإلا لن نستطيع توصيفها بالصورة العلمية، وبالتالي العمل على تجريدها من أسبابها وعوامل استمرارها، وعندها سيكون النقد جزءا من هذه الأدوات، لتفكيك هذه الظاهرة واستعادة الحياة الثقافية لقيمها الإبداعية والأخلاقية.إن تنزيه النقد أو الناقد هو إعفاء لهما من أي مسؤولية عن هذا المآل، وإلقاء تبعات الظاهرة واستمرارها على أسباب وعوامل أخرى، في حين أن النقد أو الناقد كجزء من الحياة الثقافية مسؤول بهذه الدرجة أو تلك عن هذا الواقع، بل إن الناقد ومن خلال سلطة النقد التي كان يمارسها قد لعب دورا مهما في نشوء هذه الظاهرة.تدل قراءة تاريخ الثقافة عموما والأدب على وجه التخصيص على أن هناك أسبابا عديدة، سياسية وفكرية وشخصية تقف في خلفية نشوء هذه الظاهرة واستمرارها. لقد لعبت الأحزاب اليسارية عموما في مراحل سابقة، على إنشاء شلل على أساس عقائدي، وكانت من خلال الترويج لأسماء وأعمال تتماشى مع أفكارها وتوجهاتها تعمل على الترويج لكتاب أو أدب خاص يخدم دعاواها. كذلك ظهرت الشلة عند التيارات الأدبية والشعرية الحديثة، كما ظهرت عند الشعراء الذين لعبوا دور الأبوة في الحركة الشعرية العربية، من خلال خلق مريدين وأتباع لهم يتولون مهمة التبشير والدعاية لهم، بينما أراد المريدون الاستفادة من شهرة هؤلاء الآباء وشبكة علاقاتهم في تكريس أنفسهم وتحقيق انتشار أوسع لهم. مفهوم الشلة اتخذ أشكالا وتعبيرات مختلفة، كما حدث في مراحل الصراع بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثرلقد كانت الخمسينات والستينات من القرن الماضي أكثر المراحل التي شهدت صعودا لهذه الشلل بالمعنى الواسع، وهو ما ظهر في تكريس أدب ذي توجهات فكرية محددة، تناسب واقع المرحلة سياسيا وفكريا.وهكذا فإن مفهوم الشلة اتخذ أشكالا وتعبيرات مختلفة، كما حدث في مراحل الصراع بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. إن الشللية التي تستفيد من غياب ديمقراطية الثقافة، ونشوء علاقات صحية تعلي من قيمة الإبداع وتحقق التكافؤ في إتاحة الفرص للنشر والمشاركة والحضور، يتطلب تجاوزها توافر هذا المناخ الصحي الذي يتسع للجميع، بدلا من تركها محكومة بأساليب وشبكة علاقات يتبارى البعض في الإمساك بخيوطها، خدمة لمصالحه ومصالح مجموعته التي تتبادل معه المنفعة والمساندة.إن ظاهرة الشللية التي يمكن أن نجدها في كل الثقافات الأخرى، يصعب إلغاؤها وتجاوزها لذلك ومن أجل تخليص الثقافة من نتائجها السلبية لابد من محاولة السيطرة عليها والحد من الأسباب التي يمكن أن تساعدها في توسعها، وهي مسؤولية الجميع، سواء كانوا كتابا أو مثقفين أو مؤسسات ثقافية رسمية وغير رسمية، طالما أنها تخدم مصالح الجميع وتخلق حالة ثقافية متوازنة، تترك الفرصة مفتوحة أمام أصحاب المواهب والإبداع، دون أن تغيّب الأصوات الأخرى، أو تقصيهم عن الحضور الفاعل في الحياة الثقافية، ما يتطلب أولا تحرير الثقافة من عوامل التأثير الخارجية عليها، وخلق مناخ صحي تحكمه قيم الإبداع والجمال.كاتب سوري
مشاركة :