ينتمي الكاتب الأردني صبحي فحماوي إلى الكتابة الجديدة، ويسعى إلى مواكبة الظواهر المستجدة المؤثرة في صياغة السرد واكتشاف العوالم التخييلية والبنائية، وتتقاطع تجربته مع التطور التكنولوجي والنشر الإلكتروني، إلى درجة أنه يعتبر ذاته مدينا بوجوده لتلك التقنيات، وأنه لو لا عالم الاتصالات لخُزّن الأدب الحديث برمته في مستودعات يأكلها العفن. التقنيات والآخر شهدت تجربة فحماوي الروائية حضورا واسع النطاق خلال الأسابيع القليلة الماضية، وذلك من خلال طرحها محورا للنقاش والدرس الأكاديمي في مؤتمر علمي انعقد في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة شعيب الدكالي في المغرب بعنوان “الشكل والمضمون في روايات صبحي فحماوي”، بمشاركة باحثين من سبع دول عربية، ناقشوا أعماله من حيث اللغة والأسلوب الفني والرمز والثيمات وعناصر الحداثة وعلاقة الأنا والآخر والموقف والالتزام بقضايا الوطن. حول تقييمه لجدوى مؤتمرات الرواية المتعددة التي تُعقد في عالمنا العربي، ودورها في إثراء الحركة الإبداعية والنقدية وإحداث حالة حراك، يقول صبحي فحماوي في حديثه لـ”العرب” “لا شك في أن المؤتمرات الروائية التي يلتقي فيها الأدباء ويتثاقفون، تثري الحوار، وتُنشِّط النقد الروائي، الذي تفتقر له الساحة الروائية، لأن التدفق الروائي المتسارع لا يتوافق مع التباطؤ النقدي المتراجع، فهذه المؤتمرات تأتي لتفجر الطاقات النقدية”. مؤتمرات الرواية العربية تنشط النقد وتثري الحوار والتطور التكنولوجي والنشر الإلكتروني يدعمان ظواهر الكتابة الجديدة ويشير إلى إفادته بشكل كبير من أوراق ومناقشات ملتقى الرواية بالقاهرة في إبريل الماضي، وكذلك المؤتمر الأخير الذي حمل اسمه في جامعة شعيب الدكالي بالمغرب، فمن خلال مجموعة من الدراسات والقراءات المتنوعة للباحثين والنقاد المتمرسين يمكن للكاتب أن يتحسس بوصلته في الكتابة والرؤية، ويتعرف على نتاجه في مرايا الآخرين، الذين يتفحصون نصوصه ويقيّمون ما جاء فيها. يعترف فحماوي بأن تقييم الذات ربما يكون أكثر نزاهة ومصداقية عندما يتولى الآخرون هذه المهمة، ويقول “هل ثمة خصوصية لكتابتي الروائية؟ ربما يرى النقاد ذلك، لكنني من جهتي لا أعرف كيف تتأتى هذه الخصوصية، وقد كتبتُ في مقدمة روايتي (الحب في زمن العولمة) أن الجن ركب رأسي وبدأ يأمرني أن أكتب رواية لا أعرف محتواها، وقال لي: اكتب ما أمليه عليك، فبدأت أكتب. أما عن كتاباتي الصحافية، فلقد قال لي أحدهم: مقالاتك تدخل في الموضوع مباشرة دون مقدمات. فمن غير هؤلاء المحللين والنقاد، كيف يمكنني أن أرى ذاتي؟”. يسعى فحماوي خلال أعماله القصصية والروائية إلى التطوير الصياغي والبنائي والأخذ بأساليب الكتابة الجديدة وأيضا آليات النشر الإلكترونية، واضعا في اعتباره التحولات التي تجري في العالم من ثورة معلوماتية وهوس تكنولوجي.ويلفت إلى تأثر الرواية العربية الجديدة، شاءت أم أبت، بالسوشيال ميديا وبالتقنيات الرقمية والتفاعلية، فنحن نعيش في عالم “الاتصالات”، التي لولاها لتقزّم النشر، وخُزِّن الأدب في مستودعات يأكلها العفن والزوال، ويقول “لولا الشبكة العنكبوتية لما انتشرت أعمالي على الصعيد العربي على هذا النحو، وقد أثرى الخيال التقني تجربتي بالتأكيد، فحلّقت روايتي (الإسكندرية 2050) في عوالم افتراضية، جعلت الإنسان والحيوان يتحولان إلى اللون الأخضر، فصارا يأكلان من التمثيل الضوئي مثل النباتات، وتوقف التلوث البيئي، وتفرغ الإنسان والحيوان لممارسة الحب بدلا من الحروب التي تأكل الأخضر واليابس”. صوّر فحماوي في روايته “الحب في زمن العولمة” عالما افتراضيّا هو الجن الذي يركب رأسه، فيملي عليه كتابة رواية لا يعرف عنها شيئا. كذلك، فإنه بين الحقيقة والخيال، كتب في روايته “حرمتان ومحرم” “إن شخصيتي الفعلية هزيلة أمام شخصيات الرواية التي توجه نفسها بنفسها، لتقرير مصيرها، وتشعرني أنها هي الحقيقة، وأن المؤلف هو الوهم. ذلك لأنها ستحيا بعدي، وأنا سأموت، مثلما عاشت الأهرامات، ومات فراعنتها، الذين لا نعرف أسماءهم الحقيقية”. ويسعى إلى التفاعل مع الظواهر الروائية الجديدة لدى الشباب، من خلال إتاحة إنتاجهم إلكترونيّا، ويقول “لا شك في أن هناك روائيين جددا أحترمهم، يكتبون ما يطور الرواية العربية، ولهذا أسستُ صحيفة إلكترونية بعنوان ‘أخبار الرواية‘ تعنى بالرواية والنقد، وتهتم بإبراز نصوص الروائيين الشباب على منصة معرفية واسعة الانتشار”. تأتي أعمال فحماوي عادة نابعة من قضايا وطنية، وإنسانية، واهتمام بالهمّ العربي، والعلاقة مع الآخر الغربي، كما تتفاعل مع الأحداث الجسام في المنطقة العربية، وعلى رأسها الشأن الفلسطيني، والحروب المؤثرة، وهذا ما يتجلى في روايته الأخيرة العاشرة “قاع البلد”، التي تدور أحداثها في مدينة عمان وما حولها بعد نكسة 1967، ويسردها طالب طب في جامعة الأزهر، بأسلوب دراماتيكي جاذب. تمثلت العلاقة مع الآخر على نحو بارز في روايته “صديقتي اليهودية”، حيث تصوّر الرواية رحلة سطحية في تسع دول أوروبية، حيث جاء مقعد جمال قاسم بالصدفة إلى جوار سيدة، فاكتشف لاحقا أنها يهودية مكسيكية، واستمرت الرحلة السياحية شهرا، فكانت فرصة ليتحاور خلالها جمال قاسم مع جارته يائيل، ويوضح لها أن اليهود ليسوا ساميين بل إن أصلهم من مملكة الخزر اليهودية على بحر قزوين، فلماذا يهاجرون إلى فلسطين، ولا يبقى كل يهودي في بلده الأصلي، مثل سائر بني الأديان في العالم؟ ويشير إلى رغبته في توجيه رسالة محددة من خلال أحداث هذه الرواية الشائكة، هي ببساطة “ليعد اليهودي إلى بلاد الغرب، وليكن جواهرجيّا أو محاميا أو طبيبا أو تاجرا. وليعم السلام على الأرض، بدلا من حمله السلاح وإقدامه على القتل، بما قد يجعله في النهاية مقتولا بأيدي المقاومين”. ويستطرد فحماوي موضحا “إن اتفق جمال ويائيل على هذا الطرح، وقررت اليهودية عدم تهجير ولديها إلى فلسطين، كما في الرواية، فأهلًا بالمحبة”. الشجاعة الغائبةيقرن البعض شجاعة الكاتب بقدرته على الاعتراف، سواء من خلال شخصياته الفنية التي يُنطقها بلسانه أو بكتابته أدبا اعترافيّا على نحو مباشر. ويشير صبحي فحماوي في حديثه إلى “العرب” إلى تفكيره أكثر من مرة في كتابة سيرة ذاتية، لكنه يؤجل ذلك إلى أن تكتمل كتاباته بحسب مشروعه الروائي. يحكي فحماوي أنه كان قد اعترف على لسان بعض شخصيات رواياته بأيام الهجرة الفلسطينية وما تبعها من عذابات، لكن ذلك لا يمكن اعتباره أدبا اعترافيّا، بل هو اعتراف مَرّ عليه رقيب الأنا، فحذف أبشعه، وهذا الأبشع هو الذي يبحث عنه القارئ ويتشممه ويتعلم منه ويستمتع به. ويرى أن الكاتب مهما ادعى الطهر، فإنه بالتأكيد قد عاش مواقف محرجة، وربما تكون مخزية، فتجده ينسبها لأحد شخصيات رواياته، ولا يعترف بها على نفسه، ويقول “أتمنى أن أكتب أدبا اعترافيّا مطلقا حول نفسي وأفراد أسرتي وأقاربي، والمواقف الصادمة التي واجهتها خلال مهنتي في هندسة الحدائق، وحياتي العامة، لكن علاقاتي الاجتماعية تمنعني من ذلك”. ويقر بأن الكاتب العربي لا يستطيع البوح بأسراره الفاضحة، لوجود علاقات اجتماعية وقبلية تمنعه أن يكتب مثلا أن أباه كان نصابا أو مجرما أو شحاذا أو خائنا لوطنه، ومما يشجع كُتّاب الغرب على أدب الاعتراف، التحرر المطلق وضعف العلاقات الاجتماعية والفردية، بما يجعل الكاتب يقول لنفسه “لا شيء يهم”، والأهم هو الشهرة والمبيعات الهائلة التي ستنتج بعد كتابة أدب الفضائح. ويقول فحماوي مختتما حديثه إلى “العرب” “أعتقد أنه لا مجال لدينا لأدب الاعتراف بالحقائق الإنسانية، إلا بعد أن تتفكك العلاقات الاجتماعية العربية، وأتصور أنها في طريقها إلى ذلك”.
مشاركة :