"روائيون عظام ورواياتُهم" جدلية الحياة والإبداع

  • 6/12/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لا يعيشُ المبدعُ مُنفصلاً عن واقعه وخصوصيات المرحلة التي يعاصرُها لذا فإنَّ ما تضمهُ مؤلفاته يتقاطعُ مع حياتهِ وتجاربه الشخصية على المستوي النفسي والإجتماعي والفكري. وهذا ما حدا بالمُتابعين والنُقاد للبحث عن الخيوط الواصلة بين الشخصيات الروائية وصُناعها ولا يلغي رفض دعاة عزل النص عن مؤثرات خارجية مفاعيل هذا الإجراء وتحوله إلى عنصر رئيس في عملية القراءة، والغاية من ذلك ليست إسقاط الحدث الروائي على حياة الكاتب لأنَّ العمل الأدبي إذا تَمَّ التعامل معه بهذا المنطق الإختزالي تتضاءَلُ قيمته الفنية إلى أنَّ يكونَ مجردَ وثيقةٍ تاريخية عن صاحبه. والحالُ هذه فلا بُدَّ من التذكير بأنَّ الأدب عبارةُ عن المزج بين التخُّيل والواقع إضافةً إلى الأُسلوب الذي يظهر خصوصية النوع. إذ إتبعَ الكاتب والروائي البريطاني سومرست موم في مؤلَفه "روائيون عظام ورواياتهم" الصادر بنسخته العربية من دار المدى مؤخراً منهجاً متوازناً في مُقاربة عشرة أعمال روائية عالمية حيثُ تناولَ حياة المُبدعين إلى جانب ما اعتبره أفضلَ آثارهم الأدبية. يذكر سومرست موم في مقدمة كتابه ما دفعه لخوض هذه التجربة حيثُ طُلِبَ منه في الولايات المتحدة الأميركية تحديد قائمة بعشر روايات عالمية وجاءَ إختيارهُ مُرفقاً بعبارة "إنَّ القاريء الذكي سيحصلُ على متعة أكثر من قراءتها إذا تعلم فن القفز المُفيد". وعلى أثر ذلك يقترحُ عليه ناشر أميركي إعادة طبع السلسلة المُختارة بعد حذف ما يراه حشواً أو غير ضروري. مع كتابة مقدمة لكل رواية على حدة، وبما أنَّ مختصر ما كتبه سومرست نُشر في إحدى المجلات الأدبية ونال إعجاب المُتابعين والقراء لذلك تشجعَ لطبع كلماته عن تلك الأعمال المُفضلة في كتاب مُستقل مع حذف ما خصصه لمارسيل بروست. إذ يقولُ عن صاحب "البحث عن الزمن الضائع" أنَّ روايته طويلة ولا يمكن حتى مع الحذف إختصارها إلى حجم معقول. ويشير في ذات السياق إلى محبي بروست المُتعصبين ويعتبر نفسه واحداً منهم بل يفضل الضجر مع بروست على التسلية بصحبة كاتب آخر. لماذا قراءة الرواية؟ المفاجيء فيما يرد في المقدمة هو قول الكاتب بأن الحديث عن أفضل عشر روايات مجرد هراء. ربما هناك مئة رواية برأي الكاتب ويتوقع بأنَّ خمسين مُثقفاً أو قارئاً إذا شاركوا لإختيار مئة رواية وهي الأفضل عالمياً لا يتجاهلوا الأعمال التي ذكرها في كتابه. ومن ثُمَّ يحاول تفسير تفاوت الآراء بشأن الروايات ولماذا أنَّ القاريء قد يعجبهُ عمل ولا يستسيغُ غيرهِ فبنظر المؤلف توجد عدة عوامل تتحكمُ بمذاق القاريء منها التوقيت أو الزمن الذي تابعَ فيه العمل الروائي أو أن ثيمة الرواية تكونُ أكثر أهمية بالنسبة لقاريء مُعين. فمن يعشقُ بالموسيقى يختار رواية "موريست غيست" بين أفضل عشر روايات عدا ذلك فإن قومية القاريء عامل مؤثر أيضاً في إيثاره لرواية مُحددة. والأهم في هذا الإطار هو مُناقشة الكاتب عن الغاية من قراءة العمل الروائي طبعاً المُتعة برأي سومرت موم دافع أساسي ومن الخطأ حسب تصوره التعامل مع النص الروائي بإعتباره مصدراً للتعليم والتثقيف. أكثر من ذلك يؤكدُ الكاتبُ أن الرواية فن تشوبه كثير من العيوب بمعنى ليس ثمة رواية بالغة حد الكمال بما فيها الروايات العشر التي إختارها المؤلفُ. ويلتفتُ سومرست إلى إنعدام أعراف الشكل في الرواية الروسية والأنكليزية ما أتاح المجال للإسهاب بدون التقيد، أما بالنسبة لتأثر الروائي بالموضة فيعتقدُ بأن ذلك يظهر بالوضوح في تباين أسلوب المؤلفين فقبل نشوء الإتجاه الرومانسي لم يكن هناك اهتمام بوصف الطبيعة وما أنْ يتنشر هذا المذهب حتى تصبح المشاهد الطبيعية جزءاً مهماً من تركيبة العمل الروائي. كما أن مذاق القراءة يختلف من عصر إلى آخر فكان ما يطلبهُ القراءُ سابقا هو روايات مطولة، وأضاف المؤلفون بدورهم قصصاً غير مُرتبطة بالموضوع الرئيس إلى بنية العمل إذ قطع بلزاك سرد روايته ليدونَ مقالة مُقتحمة حول اللوحات التى أعجبته في إيطاليا. ما يستخلصُ إليه الكاتبُ بناءً على ما وردَ ذكره سابقاً أن الإختصار في الروايات عملية ضرورية شأن النصوص المسرحية التي يتمُ تعديلها أو تُقطع منها الأجزاء قبل العرض. كتابة خجول تميزَ بعض المؤلفين الذين إختارهم سومرست بغزارة الإنتاج وقسم آخر منهم ما قدموا سوى رواية واحدة فاسم إميلي برونتي إقترن برائعتها "مرتفعات وذرينغ" التي أثارت إهتمام النقاد وإستغربوا أن تتمكنَ ابنة رجل دين عاشت حياة مُنعزلة من تأليف رواية مُتفردة في رومانسيتها المُتشرسة. يرى سومسرست أنَّ "مرتفعات وذرينغ" هي إعترافات لأحلام اليقظة لذلك تتجاور فيها المُتناقضات النبيلة والآثمة. إتصفت شخصية إميلي بالغرابة وكانت تتأرجح بين شدة الكآبة وأقصى المرح. ولا تفوت الكاتب الإشارةُ إلى من ينسبُ هذه الرواية إلى برانويل شقيق إميلي برونتي لكن هذا الرأي لا يستندُ إلى حجةٍ قاطعةٍ بل يعتبره البعضُ مجرد شائعة. وعندما ينصرفُ المؤلفُ إلى جون أوستن يقرُ بصعوبة التفاضل بين روايتها ثمةَ من يعتقدُ بأن "مانسفيلد بارك" هي إنجازها الأعظم، كما يفضلُ نفر من النقاد روايتها المعنونة بـ "إيما" والمُلفتُ فيما يردُ حول جون أوستن حظوتها لدى معظم النقاد والكُتاب فقرأَ ديزرائيل روايتها "كبرياء وهوى" 17 مرةً كما أشاد بها والتر سكوت مشيراً إلى قدرة الكاتبة في إستدراج القاريء من خلال الحديث عن الأشياء البسيطة إلى كونها الروائي. ويضعُ سومرست موم من جانبه "كبرياء وهوى" في المرتبة الأولى ويعلنُ نفوره من عجرفة بطلة في رواية "إيما" والمُستغرب في شخصية أوستن إحراجها من أن تضع اسمها على مؤلفاتها. ثمة من يعزو هذا التصرف إلى إستخفاف المجتمع للمرأة الكاتبة آنذاك. روايات مؤسسة ويفردُ سومرست موم فصلاً آخر لحياة الكاتب البريطاني هنري فيليدنغ الذي عرف بعربدته وانسياقه وراء رغباته الحسية على المستوى الشخصي، وفيما يؤكدُ الكاتبُ ضرورة فهم هذه الرغبات بوصفها جزءاً من الطبيعة الإنسانية يستهجنُ محاولة جمع من الكُتاب لتعتم على هذا الجانب من شخصية صاحب "توم جونز" لافتاً في الوقت نفسه إلى إستفادة فيليدنغ من خبرته المسرحية لكتابة الرواية حيث يتصفُ أسلوبه بالإبتكار والحيوية ويعتمدُ على المُصادفات الخيالية مع ذلك يمضي القاريء في المُتابعة دون الإحتجاج ما سردهُ فيليدنغ في روايته عبارة عن ملحمة الإنسان العادي الذي لا يخلو من العيوب حسب رأي الناقد جورج سنتسبيري. ينضمُ تشارلز ديكنز أيضاً إلى قائمة إختيارات سومرست إذ يسهبُ في الحديث عن حياة أسرته وتجاربه في العمل بمصنع الطلاء ويبدو أن ديكنز كان يمقتُ هذه المهنة وإعتبرها إهانة لشخصه تلاحق الأزماتُ مؤلف "قصة مدينتين" حتى بعدما يصبحُ شخصية أدبية بارزة ويحققُ نجاحاً على الصعيد الإبداعي. ويرى سومرست موم أنَّ أفضل ما كتبه ديكنز هو رواية "دافيد كوبرفيلد". ومن بين الكُتاب الروس يختارُ موم تولوستوى ودوستويفسكي إذ يتوقف عند شخصية صاحب "آنا كارنينا" راصداً ما عاشه من حياة حافلة بالتجارب والعثرات فضلاً عن صراعه مع أفراد أسرته بعد قراره بأن يتخلى من ملكية أراضيه في ياسنايا بوليانا. يبلور تولستوي في ملحمته "الحرب والسلام" فلسفة جديدة تنفي دور رجال عظام في حركة التاريخ إنما هناك قوة غامضة تدفع الشعوب نحو الهزيمة أو النصر. ويفترضُ سومرست أن تولستوى قد إستوحى من تناقضاته الداخلية المادة لصياغة شخصيتي بير بوزوخوف والأمير أندريه. ومايقوله عن دوستويفسكي ومسيرة حياته الصاخبة يذكرك برأي فرويد الذي رأي بأن كل أشكال العقد النفسية قد تراكمت في شخصيته، وما يجذبُ الإنتباه أكثر هو تعدد علاقاته العاطفية وملاحقته لبولينا سوسلوفا إلى باريس، بينما كانت زوجته تحتضر، والغريب أنَّ دوستويفسكي ألّف روائعه تحت سياط الحاجة وإستلهم الأحداث من معاناته وعلاقاته العاطفية وأظهرت رواياتهُ أنَّ النذالات الشنيعة قد توجد جنبا إلى الجنب مع أنبل العواطف. وتكمنُ أهمية "أخوة كارامازوف" برأي سومرست في ثيمتها، وهي البحث عن وجود الله. إلى جانب هؤلاء يتعمقُ سومرست موم في عالم كل من بلزاك وغوستاف فلوبير وستاندال وهرمان ملفيل متتبعاً مسار أعمالهم الإبداعية على ضوء ما شهدته حياتهم من النجاح أو الإخفاق. يشارُ إلى أن معظم من يرصدُ سومرست تجاربهم عانوا من تجارب عاطفية مركّبة وكان تعددُ علاقاتهم نتيجة لرغبة إشباع الغرور.

مشاركة :