أخرج كلود ليلوش 49 فيلما، إلا أن أشباح فيلمه الشهير “رجل وامرأة” (1966) ما زالت تحلّق فوق رأسه وعقله، وتستولي على خياله وفكره، وتدفعه دفعا إلى أن يحاول مجددا استعادة التألق والبريق والنجاح الذي حققه من قبل مع ذلك الفيلم الذي حصد “السعفة الذهبية” ثم “الأوسكار”. فقد أصبح “رجل وامرأة” منذ ظهوره، هاجسا يسيطر على خيال ليلوش. ورغم العدد الكبير من الأفلام التي أخرجها عبر أكثر من ستين عاما من العمل السينمائي، إلا أنه لم يحقق أبدا ما حققه من نجاح مع هذا الفيلم. عاد ليلوش عام 1986 فأخرج فيلم “رجل وامرأة: بعد 20 عاما”، مستعينا ببطلي فيلمه الشهير: جان لوي ترانتينيان وآنوك إيميه، لكنه لم ينجح في استعادة ذلك التوهّج القديم والسحر الذي ارتبط بقصة الحب الرومانسية الرقيقة التي كان يتعامل معها بلمسات فنان هاوٍ، وبكاميرا مدهشة في حركتها الدائرية (صور ليلوش بنفسه)، مع تعاقب الصور وتداعيها في لقطات سريعة تعبر الذهن، تصحبها موسيقى فرانسيس لاين الشهيرة التي أضفت رونقا خاصا على الفيلم وأصبحت علامة مسجلة منذ ذلك الحين. ورغم عدم نجاح تجربة عام 1976، استمر ذلك الهاجس وأصبح أكثر عمقا ورسوخا، فقد أصبح استدعاء “رجل وامرأة” ليس فقط استعادة للنجاح القديم، بل ارتبط بذلك الحنين الجارف لدى ليلوش نفسه إلى الماضي، أي إلى ماضيه الشخصي وفترة شبابه وبدايات حبّه للسينما وعلاقته المبكرة بالكاميرا السينمائية. وهو كرومانسي عتيق، يحنّ دائما إلى الماضي ويتعذّب به، ويتطلع إلى استعادة الحلم القديم بكل رومانسيته، مؤمنا بأن الحب الحقيقي لا يموت أبدا، ولا يتلاشى بمرور الزمن مهما حتى بعد أن يبلغ المرء أواخر الشيخوخة ويصبح مشرفا على عتبات النهاية. كانت هذه النزعة “النوستالجية” وراء تصوير الفيلم الجديد “أجمل سنوات العمر” (The Best Years of a life) الذي أخرجه ليلوش وصوّره مصوره روبير الأزرقي (يهودي مغربي في الأصل) في عشرة أيام، اعتمادا على ممثليه الأصليين جان لوي ترانتنيان وآنوك إيميه، بعد أن تقدم بهما العمر كثيرا لكنهما مازالا يتمتعان بكل حيوية الشباب وتألق الفنان. ترانتنيان يبلغ حاليا 88 عاما، بينما تبلغ آنوك إيميه 87 عاما.يختلط الماضي بالحاضر في الفيلم الجديد، وتتسلل الأحلام والرؤى المتخيلة والتداعيات، ويعود البطلان العاشقان إلى الأماكن القديمة التي كانا يترددان عليها في الماضي.. أي في الفيلم القديم من الستينات، ويشعر من يشاهد الفيلم طوال الوقت أنه ليس أمام ممثل وممثلة سبق أن قاما بدوريهما في فيلم قديم يعود إلى 53 عاما مضت وقضي الأمر، بل أمام عاشقين حقيقيين لم تكتمل أبدا قصة حبهما. تقول آن لجان لوي في الفيلم إن “قصص الحب تنتهي عادة بشكل سيء في الحياة بينما تنتهي نهاية سعيدة في الأفلام فقط”. وهذا هو المعنى الذي يدور حوله الفيلم، فليلوش يريد أن يردّنا إلى عالم الحلم الرومانسي الجميل الذي لم يكتمل لسبب أو لآخر في الماضي مصرّا على وضع نهاية سعيدة له قبل الرحيل. كنت شخصيا من الذين انبهروا بالفيلم القديم، فقد كان مختلفا عن سائر ما عرفناه من أفلام في تلك الفترة. كانت تبهرنا حركة الكاميرا في دورانها حول آنوك إيميه بعينيها السوداويتين الجميلتين، وجان لوي ترانتنيان باندفاعه العاطفي البديع، والاثنان يتعانقان بعد أن اكتشفا أن الحب يجمع بينهما، كما انبهرنا بانتقال ليلوش المستمر من الأبيض والأسود إلى الألوان، خاصة في النصف الأول من الفيلم، حيث كانت لقطات الحاضر بالأبيض والأسود، ولقطات الماضي بالألوان، ولكنه في النصف الثاني بدأ ينتقل بين الاثنين على نحو عشوائي دون منطق ما، وقد صرّح ليلوش في ما بعد بأنه اضطر إلى استخدام الأبيض والأسود فقط بعد أن فرغ ما كان متوفرا لديه من الفيلم الخام الملون! الماضي والحاضرلا يروي “رجل وامرأة” (1966) قصة بل يصور علاقة تربط بين شاب (جان لوي) السائق المحترف لسيارات السباق والذي انتحرت زوجته قبل سنوات بتأثير صدمتها بعد تعرضه لحادث اصطدام مروع، والمرأة الجميلة الشابة (آن) التي تعمل “فتاة سكريبت” في الأفلام والتي توفي زوجها “الدوبلير” المتخصص في أداء المشاهد الخطرة أثناء أداء أحد تلك المشاهد. لكن آن كانت تحب زوجها وما زالت تعيش معه بخيالها، لذلك يصبح الزوج المتوفي حائلا بين الحبيبين لاستكمال العلاقة. وكانت العلاقة قد بدأت بين الرجل والمرأة عندما ذهب الاثنان لاصطحاب طفليهما يوم الأحد من مدرسة داخلية في دوفيل. لكن آن تضيف سببا جديدا لفشل العلاقة في الفيلم الجديد، سبب هو أن جان لوي “كان يلاحق كل من ترتدي تنورة”! لكن جان لوي أصبح الآن شيخا طاعنا في السن، يقيم داخل أحد بيوت رعاية المسنين، غاضب على ابنه “أنطوان” الذي وضعه في هذا البيت وعزله عن العالم، يعاني من اضطراب كبير في الذاكرة، لكنه رغم ذلك يستعيد طوال الوقت في وحدته ذكريات علاقته التي لم تكتمل مع آن. أما “آن” فقد أصبحت جدة بعد زواج ابنتها “فرانسواز” التي كانت تعلب مع أنطوان ابن جان لوي، وهي تمتلك محلا صغيرا للأزياء في بلدة صغيرة. تجديد اللقاء بينهما بعد كل هذه السنين كان فكرة أنطوان الذي يعثر على مكان آن ويذهب لإقناعها بأن تزور والده، مؤكدا أنها يمكن أن تساعده في أيامه الأخيرة وتدفع في قلبه الأمل خاصة وأنه لا يكف عن تذكرها. تتردد آن ثم توافق وتذهب لكنه لا يتعرّف عليها في البداية، وبعد ذلك ينسجم الاثنان معا مجددا وينقلنا الفيلم إلى المنطقة الواقعة بين الماضي والحاضر عبر المشاهد (المتخيلة) التي يذهب خلالها الاثنان لزيارة الأماكن القديمة التي عرفاها وولدت فيها قصة حبهما قبل 53 عاما على شاطئ البحر في دوفيل أو الفندق الذي قضيا فيه ليلة معا للمرة الأولى، كما تصحبه آن في نزهة خارج المصحة إلى الريف، في سيارة آن العتيقة، ويصر جان لوي على أن يقودها بنفسه متجاوزا قواعد المرور، وتنتهي هذه المشاهد عادة إما بجريمة يرتكبانها (السرقة بالإكراه وإما قتل رجل شرطة أوقفهما بسبب تجاوز السرعة.. إلخ) ولكن في سياق كوميدي قبل أن نرتد إلى الحاضر. مشاهد الفيلم طويلة تمتلئ بالحوارات التي يبدو الكثير منها مرتجلا، مع تكرار عبارات وأفكار كثيرة قد لا تعني شيئا، ويفرط ليلوش كثيرا في استخدام اللقطات القريبة للوجوه لرصد الانفعالات وآثار الزمن البادية بوضوح على وجهي البطلين. وفي لحظة بدت مرتجلة يقول جان لوي لآن: لماذا تبدين أكثر شبابا مني؟ فتجيب: لأنني أضع الماكياج. لكنه لا يبدو مقتنعا.. “بل لأنك جميلة”. تداعيات وأشجان الماضيدون سياق قصصي واضح محكم بل من خلال أسلوب التداعيات يحاول ليلوش محاكاة أسلوبه في “رجل وامرأة”، فيظل الفيلم ينتقل بين الحاضر والخيال وأحلام اليقظة، ونرى الكثير من اللقطات (بالأبيض والأسود) من الفيلم القديم بعد معالجتها لونيا لإضفاء مسحة لونية رومانسية خاصة عليها، كما يتوقف بوجه خاص أمام اللحظة المحورية التي لعبت دورا رئيسيا في بدء العلاقة الأسطورية بينهما. فبعد اللقاء الأول الذي اكتسى بالإعجاب المتبادل، ترسل آن برقية تصل إلى جان لوي تقول له فيها “أحبك”. هذه اللحظة تدفع جان لوي إلى القيام برحلة ليلية تحت المطر في أجواء عاصفة، من دوفيل إلى باريس، في قيادة سريعة، يفكر خلالها ويهمس لنفسه: ماذا سأقول لها؟ هل سأمضي إلى شقتها وأضرب جرس الباب؟ لا.. ليست فكرة جيدة. سأتصل بها هاتفيا. ولكن هذا قد يوقظها من النوم في الفجر ويزعجها. سأقول لها إنني أحبها.. لكن مع لقطات متبادلة وأحيانا متشابكة بين الحاضر والماضي، يبدو تأثير الزمن واضحا، فالفيلم أيضا عن مرور الزمن، وعن رفض الاعتراف بتأثيره على العاطفة. فالفيلم يقول إن الزمن يمر لكننا نظل أطفالا لا نكبر أبدا ولا نشيخ وتظل مشاعرنا كما كانت، ونحلم دائما باستعادة الحب الأول الحقيقي. يستغل ليلوش أيضا كون جان لوي سائق سباق محترفا، لكي يستعيد اللقطة – المشهد التي يتكون منها فيلمه القصير “موعد غرامي 9 دقائق” (Rendezvous) الذي صوره عام 1976 وهي لقطة مصورة من داخل سيارة تقطع شوارع باريس عند الفجر، تخترق الساحات، بسرعة مذهلة، وصوت محركها يزأر من دون توقف، تعبر من جانب السيارات ثم تنحرف إلى الجانب الآخر (المخالف) من الطريق، وكلما انحرفت نسمع صوت احتكاك عجلاتها بالأرض، وتمضي تخترق جميع الإشارات الحمراء دون مبالاة، تنحرف فجأة في اتجاه يجعل الكاميرا تميل مع ميل السيارة بشكل حاد بحيث تصيبك بالدوار، لكن حركة السيارة تستمر في اختراقها شوارع باريس الضيقة فيما لا يعبأ سائقها بوجود سيارات تعبر أمامه أو حافلات تواجهه، إلى أن تتوقف أمام كنيسة أعلى الربوة الشهيرة أمام “القلب المقدس” لتظهر المرأة تعانق الرجل الذي هبط من السيارة. فهذا هو “الموعد”. وهذا هو ليلوش يحتفل بنفسه أيضا.هذا المقطع أو الفيلم القصير الذي ينتهي بلقاء مفاجئ، هو في حد ذاته فاكهة هذا الفيلم الذي يظل يدور حول رغبة ليلوش في استعادة تألقه القديم. وكما أنه عن شباب ليلوش فهو أيضا عن شباب الممثل والممثلة. أن ما يُبقي على متعة المشاهدة فهو دون شك، أداء البطلين جان لوي ترانتنيان وآنوك إيميه وتلك الكيمياء السحرية التي تربط بينهما بحيث ليس من الممكن أبدا أن يتصور المشاهد أنهما ليسا فعلا حبيبين يتوقان لبعضهما البعض. ترانتنيان يبدو وقد تغيّرت ملامح وجهه كثيرا عما كان في “حب” ثم في “نهاية سعيدة” لميشيل هانيكه، لكنه لا يزال يتمتع بتألق عينيه لم يغادره مرحه الطفولي. أما آنوك فهي ما زالت تتمتع بنفس الرقة والهدوء الجميل الذي يشع به وجهها. يظهر في الفيلم أنطوان سير الذي قام بدور “أنطوان” ابن جان لوي في الفيلم القديم قبل 53 عاما، كما تظهر سعاد أميدو التي قامت بدور فرانسواز ابنة آن، ولكن بعد أن كبر كلاهما بالطبع الآن. وهناك ظهور مفاجئ للممثلة الإيطالية مونيكا بيلوتشي في مشهد وحيد، تؤدي فيه دور “إيلينا” ابنة جان لوي من عشيقته الإيطالية. ولكن ظهورها بوجهها الجميل لا يضيف شيئا للفيلم، كما أن وجود أنطوان وفرانسواز يظل هامشيا. فيلم ليلوش الجديد عمل بسيط يدور حول الذات والماضي، يعبّر عن نزعة شخصية في استعادة المجد القديم الزائل، لكنه لن يرتفع أبدا إلى مستوى تأثير الفيلم القديم، فهذا عصر مختلف، لم تعد فيه السينما هي السينما، ولا الجمهور هو الجمهور، وأصبح الناقد أيضا غريبا. لكن من الذي يكترث فليلوش صاحب المقولة الشهيرة “عندما يتوفر لي بعض المال الذي لا يهمني أن أخسره، سأصنع فيلما للنقاد”!.
مشاركة :