أنا على حق.. إذاً أنت على باطل!

  • 6/19/2019
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

كثيرا ما تبدأ الظواهر الاجتماعية والتيارات الفكرية والثقافية مغرية، لأنها تأتي، غالبا، بعد ملل من حال ركود، أو إحباط من فشل تجربة، أو خوف وتوجس من مجهول لم تتضح معالمه. وقد بدت «الصحوة»، لغالبية جمهورها – لا أتحدث عن أصحاب الأجندة الخفية – إحياء للنقاء وعودة إلى المنابع الصافية التي تغذي الأرواح وتفتح آفاق الكون على آيات الخالق لمزيد من تحقيق سعادة الإنسان في حياتيه: الدنيوية والأخروية، ورأى فيها المنكسرون والمحبطون من التجارب العربية الفاشلة «رافعة» تعيد للذات العربية روحها وأملها في استعادة دورها لمواجهة التحديات، وتضافرت العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتفسح الطريق لتلك الموجة الصاعدة في قلوب الكثيرين، ولأنها موجة أو «هوجة» وعاؤها العواطف البريئة ووقودها المشاعر الهاربة من ضوابط العقل، فقد وظفها أصحاب الأهداف الخاصة وأهل الأجندة الخفية، فكانت «مطية» للسياسة ووسيلة لأجهزة الاستخبارات وغطاء تخفت فيه الجماعات، السرية والمعلنة، كل وظفها بما يحقق أهدافه أو جزءا منها، وحتى يكون جمهورها، طيعا مرنا، قابلا للتوجيه والتوظيف، كان لا بد أن تترسخ في عقول شبابه أنه على الحق وأن مخالفيه على الباطل، وأن الحقيقة المطلقة هي ما يرى قادته ورموزه، وكان من نتيجة ذلك أن تقلصت مساحة «التعددية» في الرأي، حتى داخل دائرة الفهم الشرعي، وبات من لا يرى ما يرون إما جاهلا، لم يفهم مراد الله من كتابه المنزل على محمد، صلى الله عليه وسلم، وإما مستلبا متغربا، لم يرتو من منابع مصادر الشريعة، واكتفى بالقشور مما يقال عنها من جهلتها أو أعدائها. وكأي موجة طافحة غمرت «الهوجة» الكثير مما كان مستقرا في حياة عامة الناس من تقاليد وانفتاح وإقبال على الحياة من دون التعارض مع قيمهم وأحكام دينهم، فاختفى الكثير من مظاهر الفرح والبهجة وتطاولت الأسوار وعلت السدود وزادت القيود حتى ضاق بها الكثيرون وحاولوا مقاومتها والتنبيه على خطرها ونبهوا على عميق تأثيرها على السلم الاجتماعي وتوازن المسيرة التنموية، بل أودى ضيق البعض بها إلى عدم تحرجه من المجاهرة برفض الدين الذي ظن أن جوهره وروحه وتعاليمه هو ما يضيق على الناس ويرفض التوسع في ما أباحه رب الناس. وما خلفته تلك الموجة ومناهجها ورؤيتها على الحياة بات معروفا، لكنه لم يلق – في ظني - ما يستحق من دراسات معمقة تكشف، بموضوعية علمية، عواره ومكامن الخلل فيه وأسباب صعوده، ومخاطره وأسباب احتضان الدول والشعوب له، لعقود، وما هي عوامل سقوط الظاهرة ومن كان يقف وراءها، وهل السقوط كان بعوامل داخل بنيتها أم بمؤثرات خارجية، وهل يمكن عودتها أو استعادتها في صور أخرى؟ وليس خافيا أن الدراسات النافعة في فهم الظواهر الثقافية الكبرى، ليست هي مقالات «الهجاء» وأوراق «التقبيح» وبيانات «التنديد والبراءة»، فتلك مواقف سطحية لا تلامس عصب المشكلة، بل لا يوثق بالكثير من أهلها ولا يطمئن إلى بواعثهم، فالدراسات المفيدة المرشدة هي التي ترتكز على نظرات الفحص والتدقيق والتعرف على الخطوط المحورية وتقاطعاتها مع الهامشية، وتسليط الضوء على من يقف عند كل منها. وهذا «مشروع» كبير يستحق أن تتصدى له هيئات بحثية عامة لديها من الإمكانات والوسائل ما يمكنها من انجازه بصورة يحقق بها الغرض، أو هو طموح باحثين جادين يتمتعون بالعلم، الذي أكسبهم «العقول الباردة» التي لا تشعلها اللافتات الجماهيرية، ولا تشغلها الموجات المضادة، عن تأمل الظاهرة بحثا عن مكامن الجذور ومسرح التجليات وبيئات التنشيط ومواطن المستفيد، حتى يمكن الخروج بمستخلصات تعين على الفهم الذي يمنح المجتمعات ما تستقي منه الدروس. ولعل من جذور المشكلة والقاسم المشترك، بين رموز هذه الظاهرة، والعلة المحورية لصعودها بين جمهورها وسبب ضيق الناس بها، هو منهج «الرأي الواحد» الذي ضيق دائرة التعددية، أو كاد ينفي مبدأ «الاختلاف»، الذي هو من طبيعة الفهم والفكر البشري، «بنسبيته» المناقضة للمطلق، وهذا الفهم الواحد هو الذي قاد إلى «توليد» المجموعات المتطرفة والفرق المتشددة وانشطارها إلى أخرى إرهابية ضيقة الرؤية حتى دفعت بأخواتها خارج دائرة الحق والصواب. وهكذا هي طبيعة «الرأي الواحد»، لا يقف عند حد، تظل نظراته تضيق وتتقوقع حتى لا يعود الإنسان يرى لغيره صوابا، وإن اشترك معه في المدرسة الفكرية نفسها. والمجتمعات التي تمر بها موجات التشدد وتتخلص منها، معرضة للوقوع في أخطاء غير متأملة، فمرارة الماضي وحلاوة تذوق الخروج منه، قد تدفع إلى الوقوع في خطأ «الرأي الواحد»، مهما كانت اللافتة التي يرفعها، والذي يفضي بها إلى الاصطدام بصخرة ضيق الناس ورفضهم. قد يصعد رأي أو اتجاه أو خطاب يفرح الناس بتكوين «مزاج» عام يغسل كدر الماضي ويدخلهم في لحظات سعادة وبهجة، لكن، في المحصلة، لا بد أن يواجه الحقيقة التي ترفض صب كل العقول والأذواق والأمزجة في «قالب» واحد، هذا ضد الطبيعة البشرية وتؤيده تجارب البشر في كل زمان ومكان. المجتمعات الطبيعية، التي تسير على طريق التنمية البشرية - في مفهومها العام- هي مجتمعات تستوعب تعدد الرؤى واختلاف الأذواق وتباين الخبرات وتنوع العادات في إطار جامع تغذيه الروح الوطنية المشتركة وتحميه القوانين المحترمة من الجميع، وليس معنى هذا ألا يكون لمؤسسات المجتمع، في مرحلة ما، رؤية عامة للمستقبل وآليات لتنفيذها ودعوة الجميع لمساندتها والوقوف معها، فهذا مهم بل ضرورة للسير قدما، وهو واجب يمنح المتحمسين له حق تقدم الصفوف لقيادة المسيرة نحو الهدف المشترك. والخلاصة: الاختلاف مركوز في طبيعة البشر وحقيقة تتجلى في هذا الكون الذي أبدعه خالقه، وأن العمران البشري، لا تستقيم مسيرته وتنضج تجاربه وتتعمق معارفه إلا في وعاء جامع يستوعب الاختلاف ويستغل ثمراته لمصلحة المجموع.

مشاركة :