منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، يواصل الناقد العراقي الدكتور عبدالله إبراهيم العمل على مشروعه النقدي المتمثّل بدراسة السرد في مظاهره المختلفة، ومستوياته البنائية والدلالية، تحليلا ووصفا وتأويلا، وقد بلغت كتبه في سياق هذا المشروع أكثر من 10 كتب أبرزها “موسوعة السرد العربي” في 9 مجلدات، ونحو 4000 صفحة، الصادرة عن مؤسسة محمد بن راشد الثقافية في دبي، “الرواية العربية: الأبنية السردية والدلالية”، “السرد النسوي”، “التخيّل التاريخي”، “السرد والهوية والاعتراف”، “السرد والترجمة”، و“أعراف الكتابة السردية”، الذي صدر مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. ويتألف كتاب “أعراف الكتابة السردية” من 6 فصول توزعت عناوينها على “صنعة السرد”، “ثمار الانكباب على الرواية”، “الأرشيف السردي” “طقوس الكتابة السردية”، “الفصاحة السردية الجديدة”، “القراءة الطرية”. وخاتمة بعنوان “لزوم التحذير من غُشماء السرد”. شروط الكتابة نسأل الناقد عبدالله إبراهيم عن الهدف الذي يرمي إليه هذا الكتاب، فيقول “إنه كتاب يتطلّع إلى الوقوف على أعراف الكتابة السردية، التي حاولت اشتقاقها من تجارب روائيين كبار في الكتابة، ومن آرائهم في ما يكتبون، مثل تولستوي، بلزاك، دوستويفسكي، ستندال، فلوبير، ميلفل، جويس، وكافكا. وقد حرصت على تشييد سياق حاضن للأفكار، وترتيبها، لدعم الهدف الذي يرمي إليه الكتاب، وهو وضع لائحة بأعراف الكتابة جرى اشتقاقها من مدوّنة سرديّة متنوعة تراوحت بين الأقوال الدالّة على أهميتها، والنصوص الداعمة لها. وبذلك انتهى الكتاب إلى تركيب يمزج آراء الآخرين بآرائي”. ولدى سؤاله عن ماهية اللوائح السردية التي يحتاج إليها القارئ لكي يتمكّن من تأويل النصوص السردية، يجيب إبراهيم “حينما يشرع كاتب في تأليف رواية ينبغي عليه، من أجل الوفاء بشروط الكتابة السردية، مراعاة مجموعة شروط، وإلا فسد عمله، ولم يحقق ما يريد، في مقدمتها الاهتمام بالمرجعية الواقعية، وبناء الشخصيات والتدقيق في رؤيتها للعالم الافتراضي الذي تعيش فيه، والحرص على بناء النواة السردية الصلبة في روايته، والعناية بعدد وافر من الأشياء، والمعلومات، وطرز المعيشة، والوقائع، والتقاليد الشائعة، والأعراف السائدة، وباجتماعها تتنزّل الأحداث والشخصيات في حقبة من حقب التاريخ”ويتابع الناقد حديثه قائلا “إن أهمية هذه العناصر تتأتى من أنها ترسم الحدود العامة للعالم الافتراضي، وتساعد المتلقّي في تحديد الحقبة التاريخية التي تقع فيها الأحداث، وبالإجمال، تلعب اللوائح السردية دور الإطار الناظم لارتباط الأحداث بحقبة تاريخية معيّنة”. ويؤكد أنه لا يُخفى أن الرواية عرفت نزعات تجريبية كثيرة، خاصة حين حاولت فصل النصوص عن الواقع، على خلفية أن القارئ إنما يحاول في النهاية أن يفهم عالمه بقرينة سردية. وليس من الفائدة، في تقديري، الانجراف وراء مظاهر التجريب الباهتة التي أحالت الشخصية إلى ضمير مبهم، وشاحب، كما ظهر ذلك في الرواية الفرنسية الجديدة في ستينات القرن العشرين، فتلك من النزوات العارضة التي لا تثري الكتابة السردية بشيء ذي قيمة”. تحرير القارئ والكاتب يشدد الناقد على أنه كلما ارتسمت للشخصية هوّية خاصة، كائنا ما كانت محمولاتها الفكرية، فإن ذلك يمدّ جسور التواصل مع المتلقين الذين ينشّطون الشخصية بقراءاتهم التأويلية الخاصة بهم. ما من رواية في تاريخ السرد استأثرت بالتقدير الحقيقي إلا وكانت لشخصياتها العمق، والموقف، والرؤية، بما يتيح للمتلقي مدّ كل ذلك مع عالمه هو، فالعالم الموازي الذي يصطنعه السرد يتغذّى، بالتأويل، من مكونات العالم الحقيقي، وما القارئ إلا الوسيلة الرابطة بين العالمين، والمنشّطة لهما. وحول تصنيف الكتاب إن كان عملا تأليفيا أو تحريريا، يوضح عبدالله إبراهيم قائلا “حينما شُغلت بفكرة الكتاب عزمت، منذ البداية، على أن أكون محرّرا لمادته، وليس مؤلّفا صرفا له، وحسمت أمري بالعودة إلى المتون السردية التي شغفت بها قارئا وناقدا، وكأنّي بذلك استلهم معنى التأليف في اللغة العربية: أي جمع المادّة، وتحريرها، وصوغها بتركيب يوافق غايتي، وشفعته بقراءات ختامية لعيون من الروايات بهدف تحرير القارئ من أسر الصرامة النقدية”. ويتابع إبراهيم “فالكتاب، في جزء كبير منه، نوع من المؤالفة بين أقوال تعود إلى كتّاب مشهود لهم بالخبرة، وآرائي التي استخلصتها من تجربتي في ممارسة النقد. وفي ظنّي أن تأليف هذا النوع من الكتب لا يقوم على اجتهاد فردي، فحسب، بل على اختبار تجارب الآخرين في ضوء غاية مقصودة تستبطن عمل الناقد، وتتناثر في صفحات كتابه. وكان رولان بارت- معتمدا على باختين- قد قال إنّ ‘أي نصّ هو فسيفساء من الاستشهاد، وإنّ أيّ أطروحة هي فسيفساء من المراجع”. ولا يراد بالمصادر إلا أن تكون سندا داعما لشرعية الأفكار، وربطها بأصحابها، أمانة في التوثيق”. ونسأل عبدالله إبراهيم عن المصادر التي استقى منها تجارب الكتّاب وآرائهم، فيقول “كتب عدد من الروائيين رسائل إلى أقرانهم، بهدف عرض خبراتهم، وتجاربهم، للإفادة منها، وقد اطّلعت على شيء منها، فراق لي، لما فيه من خبرات صدرت عن ذوي تجارب عميقة في الكتابة، وعلى منواله حاولت تحرير هذا الكتاب، بهدف مخاطبة القارئ الذي افترض أن يكون روائيا، أو في طريقه إلى أن يكون كذلك، سواء نضجت تجربته أم ما زالت قيد التكوين”. أخيرا نسأل إبراهيم عما إذا كان الكتاب موجّها إلى ناشئة الكتاّب أو إلى القراء بشكل عام، فيجيب “لا أزعم أنه موجّه إلى أصحاب الخطوات الأولى في قارّة السرد، فما لأجلهم وحدهم سلخت شطرا كبيرا من عمري في مصاحبة الظاهرة السردية، وتقليبها، إنما من أجلهم، ومن أجل سواهم من القرّاء الذين يريدون أن يفحصوا تجاربهم في القراءة والكتابة مهتدين بتجارب سواهم من كبار الكتّاب”. ويضيف “إلى هؤلاء أضيف الروائيين الذين دمغوا السرد ببصماتهم، وأمسكوا بناصيته، لكنهم أمسوا بحاجة إلى تقليب النظر في ما كتب أقرانهم، أو مَن سبقهم إلى خوض مغامرة السرد المذهلة. فربما خطر لهم تركيز أنظارهم على ما يكتبون لتفادي أخطاء السابقين، وتجنّب هفواتهم؛ فكما أنّ ناشئة الكتّاب يحتاجون إلى النهل من ينابيع السرد العذبة، فإن كبارهم أحوج إليها حفاظا على يقظة الكتابة؛ فالاعتياد على نمط رتيب منها، انتهى بأمثالهم، في أغلب الأحوال، إلى كتابة راكدة، قوامها تكرار الموضوعات، وترداد الصيغ الجاهزة. فلا فارق فيها بين الأسلوب، والتركيب، ومآل الشخصيات، فكأنها كتابة مكررة للأعمال التي انتزعوا بها شرعيتهم في وقت مضى”..
مشاركة :