الفُكاهة، تلك الظاهرة الإنسانيّة التي تخفي في طيّاتها عناصر الهزء والسّخرية والضّحك والتلاعب بالألفاظ، أجاد الكاتب الأميركي تيري أيغلتون في فلسَفتِها، عارضاً المُسببات الاجتماعية والنفسية ونتائجها السلبية منها والإيجابيّة، فوضع فيها كتابه «فلسفة الفُكاهة»، الذي أصدرته في بيروت «الدّار العربيّة للعلوم ناشرون». تعدّدت الدراسات التي تتعلّق بالفُكاهة ومشتقّاتها العديدة كالسّخرية والدّعابة والضّحك والابتسام، وتناولها الكوميديّون على المسارح وفي النّوادي، وتعاطاها الجمهور في يوميّاته، فغدت جزءًا من حياة البشر حَمَلَ معه السّرور والانشراح، ودَفَعَ الى التمتّعِ بأوقاتٍ تخلو من الهموم. لكنّ الكاتب لم يتوقّف في عرضه على الفُكاهة التي تُبلسم الجّراح وتُطيّب الأجواء، بل غاص في أعماق النّفس البشريّة، باحثاً عن الأسباب الماكرة والألاعيب اللّفظيّة، والاستعارات المذهلة، والمبالغات المتناقضة التي يستخدمها الأشخاص للتأثير في المستمع بطريقةٍ مفاجئة وغير مألوفة، فيرى فيها بعض السّحر والغرابة الذي يداخلها شيء من البهجة. الضّحك لغة الجسد يفتقر الضحك الى الإحساس الجوهريّ، فهو ينطوي على حالة من فقدان السيطرة بشكلٍ مؤقّت وفوضويّ. ويمكن أن يعبّر الضحك عن مجموعةٍ من المواقف العاطفيّة كالسّعادة، والسّخرية، والمكر والتهكّم والازدراء، والتوتّر، والارتياح، والغرور، والشّهرة، والصّدمة، والاستهزاء وغيرها. أمّا طرائق التّعبير فقد تكون في حركاتٍ بَدنيّة هزليّة، أو في قهقهةٍ صاخبةٍ، أو في إفراطٍ لا يمكن السّيطرة عليه، فنحن بعد فترةٍ من الضحك، لا نعود نعرف ما هو الدّافع الذي سبّب ضَحِكنا، وهذا ما يسمّيه أحد النّقاد: "ضحكة مُضحكة للغاية، جعلتنا نضحك". وهناك أيضاً حالة من الضّحك المُعدي، حيث نضحك لأنّ شخص آخر يقوم بذلك، دون الحاجة الى معرفة ما نجده مضحكاً. ويضيف الكاتب أنّ وباء من الضّحك قد انتشر في الصّين وإفريقيا وسيبيريا، بشكلِ نوباتٍ هستيريّة، ويزعم أنّه توفّي العديد من النّاس بسببها. وفي عام 1962 تمّ تعطيل العديد من المؤسّسات التّعليميّة عن العمل لأشهرٍ عدّة، نظراً لتفشّي وباء الضّحك في منطقة تانغانيكا. وباختصار يمكن التعامل مع الضحك كنصّ، أو كلغةٍ مع العديد من اللّهجات الإقليميّة، فالرّجال الإنكليز مثلاً يميلون الى ضحكة "النّهيق"، أمّا نساؤهم فيملنَ الى الضحكة الرنّانة. أمّا القادة العسكريّون فيفضّلون القهقهة، وكذلك الذين يؤدّون دور سانتا كلوز، يضحكون بصوتٍ عالٍ مملوء بالبهجة. ويُصعب تخيّل أرنولد شوارزنيغر يبتسم ابتسامة متكلّفة، لكن يسهل تخيّله يضحك ضحكة رنّانة. التعويض بالضّحك يغوص الكاتب في تحليل نتائج الضحك، فروح الدّعابة والحسّ بالفُكاهة مفطوران في الإنسان الذي يعتبره فريديريك نيتشه أنّه الحيوان الوحيد القادر على الضّحك، لأنّه يعاني بوحشيّة، ويحتاج الى أن يحلم بهذه المسكّنات اليائسة بسبب معاناته. ويستشهد بقول والتر بنجامين: "ليس هناك نقطة انطلاق أفضل للفكر من الضّحك، فإنّ تقلّصات الحجاب الحاجز تُفسح مجالات الفكر بشكلٍ أفضل من تقلّصات الرّوح". ويقول الكاتب: "نحن باختصار كائنات هزليّة حتى قبل تفوّهنا بدعابة، كما أنّ قدراً كبيراً من الفُكاهة يستغلّ هذه الفجوة من الذّاتيّة في كياننا، وأنّنا نعوّض بالضّحك عن الأمور المثيرة للشّفقة في حياتنا"، ويروي في هذا الإطار نادرة عبثية ومروّعة في الوقت نفسه: "هناك بعض المرضى في مستشفى الأمراض العقليّة الذي قرّر الانتحار الجماعي. وبما أنّه لم يكن بحوذة المرضى أي عقاقير أو أسلحة، فقد ىوضع أحدهم قدميه في دلوِ ماءٍ، ووضع أصابعه بآنٍ واحد في مأخذ كهرباء، في حين تشبّث به الآخرون وقام فردٌ منهم بتشغيل المأخذ". لهذه القصّة جانب ترفيهيّ سوداويّ، إذ نشعر بالاستياء جرّاء البؤس الذي دفع أولئك الرّجال والنّساء الى مثل هذا التصرّف المتطرّف اليائس، بينما نحاول قمع ابتسامة ساخرة بسبب سخافة الوضع وتحويله الى مهزلة. الضّحك على «بلايا الغير» يصل بعض المتهكّمين والهازئين الى التنمّر على بلايا الآخرين، وعلى التشوّهات والعاهات البشريّة، والفرح الناتج عن أحزان الغير، وإلى السّخرية بالشخص الأخرق والسّاذج والأحمق. قد نضحك على شخص سقط سرواله، بينما نعترف له بتفوّقه علينا في كل شيء، ما عدا اختياره لحزامِ خصره. فأياً يكن الأمر، إنّ سقوط سروال المرء ليس عيبًا أخلاقيًا، ولا كشف رِجلَي أحد الأشخاص فجأة في مكان عام، يدلّ على مكانته الأدنى في الوجود. الضّحك بين التناقض والتنافر تنبثق نظريّة التناقض من صراعٍ بين السّمات أو الصفات المتناقضة كتغيير مفاجئ في المشهد، أو انحدار غير متوقّع للمعنى، أو الابتعاد الخاطف عن الأمور المألوفة وما الى ذلك، وهذا ما يشكّل خرقاً في الترتيب المعتاد للحوادث. والأمثلة على هذه المواقف القائمة التى وضعها الفيلسوف توماس ناغيل عن السخافة، مثل حادثة سقوط سروال شخصٍ في أثناء تكريمه بلقب الفروسيّة، ومثل أن يصبح أحد المجرمين السيّئي السّمعة، رئيساً لمنظّمة خيريّة. وكان يمكن أن يضيف لقائمته وزيرة خارجيّة أميركيّة، متّهمة بإدارة حربٍ غير شرعيّة، والتي تمّ منحها جائزة نوبل للسلام. وثمّة هفوة تُروى في قصّة الزائر الذي اصطحبه مرشد سياحيّ الى معرض فنّي في موسكو، ثمّ توقّف أمام لوحةٍ تحمل عنوان "لينين في سان بطرسبرغ". تفحّصَ الزائرُ اللّوحَة الزيتيّةَ عن كثب، فلم يرَ سوى رسم لزوجة لينين، كروبسكايا، في السرير مع شابٍ عضوٍ من اللّجنة المركزيّة في غرفة نوم بموسكو. سأل الزائر المرشدَ بارتباك: ولكنْ أين لينين؟ فردّ عليه المرشد السياحيُّ: "إنّ لينين في سان بطرسبرغ". ويبدو التناقض واضحاً أيضاً في هذا الحوار الموجز الى حدّ كبير: جورج: "أنا ذاهب لرؤية فيلمٍ عن الـ "تيتانيك". روبرت: "إنّه رائع، وخصوصاً في النهاية عندما تغرق الباخرة ويموت البطلان. جورج (ساخراً): شكراً جزيلاً على المعلومات القيّمة! الفُكاهة في التاريخ لم تَمِل الطبقات الحاكمة في العصور القديمة والوسطى الى الفُكاهة على الإطلاق، فعلى ما يبدو أنّه لم يكن للضّحك شأن يُذكر. لقد وقف أفلاطون في جمهوريّته بحزمٍ ضد السّخرية والتهكّم، ونهت الرهبانيّات عن المزاح، واعتبر أغلب المفكّرين أنّ الضحك هو ابن الحماقة. ومع إطلالة القرن العشرين تعدّدت الدراسات حول فنّ الضّحك، وتنوّعت الوسائل المسرحيّة والإذاعيّة والتلفزيونيّة والصحافيّة. وجال الأدباء في حقول الفُكاهة، فانتشرت الكتب التي تفيد بأن الضّحك يرفع المعنويّات ويدعم صحّة الإنسان وينتشله من وهدة الغمّ والحزن والتشنّج.
مشاركة :