الشارقة: محمدو لحبيب «أنا أبدأ يومي وأنا أفكر في ماذا سيصادفني من أشياء، أو ألوان، تستحق التسجيل»، بتلك الجملة المنفتحة على اتساع آفاق الذاكرة البصرية، تؤكد الفنانة الإماراتية الدكتورة نجاة مكي ل«الخليج» ذلك الإحساس الفائق بالشكل، واللون، وذلك التماهي اللاشعوري مع الجماليات التي تسكن قلب وعمق كل شيء حولها، إنها تبحث عن ذلك الجمال الذي لا تبصره إلاّ عين فنان، درج منذ صغره في بيئة تعكس الألوان المتنافرة في تكامل بديع. في طفولتها كانت دبي القديمة بمبانيها المشيدة على الطراز المعماري العربي والإسلامي، كان البحر، وكان البر، وكان دكان والدها المزدحم بألوان الأعشاب، وروائحها العطرية، كل ذلك أسس لذاكرة بصرية لا تتجاوز بسهولة أي شيء حولها دون أن تلتقط من خلالها مكامن الجمال، وتراتبية الألوان التي تصنع سحر الوجود وألقه. في «بر دبي» وفي بيت قريب من البحر، نشأت الفنانة مكي المولودة سنة 1956م، والتي تعد من المؤسسين للحركة الفنية التشكيلية في دولة الإمارات، ومن البحر أخذت اتساع المدى في الرؤية، ومن البر ورمله أخذت الصفاء والتحمل، ومن المشغولات والأنسجة القديمة التي كانت أمها تحرص على تزيين البيت بها، أخذت أصالتها وهويتها المحلية، ومن ألوان الأعشاب المبثوثة وروائحها في دكان والدها أخذت إحساسها بالطبيعة، ومن كل ذلك شكلت علاقتها الممتدة طوال مسيرتها الفنية وحتى الآن مع المكان. ذلك المكان الأول الذي صنع هويتها الفنية ورسخ ذاكرتها البصرية، مازال هو المسيطر في معظم أعمالها من لوحات ومنحوتات، لكنه أبداً لم يستطع أن يتحكم في قدرتها الفنية المدهشة على التطور والأخذ والاستفادة، واستطاعت أن تمزج دون شطط وبتناغم لا يتقنه إلاّ المبدعون بين هويتها التي صنعها المكان الأول لها، وبين إتقانها للمدارس الفنية الغربية الحديثة. إنها لا تحب تعبير الالتزام الفني، أو أنها تفهمه بشكل مختلف جداً، تماماً كما تبدع رؤاها التشكيلية بشكل لا يشبه إلا إياها، تقول لنا: «ليس لي التزام، ولا تحفّظ على أي شيء، أو موقف من الجديد وأساليبه المختلفة عما عرفناه سابقاً، في وقتنا الحالي تغييرات كثيرة تطال حتى الخامات والألوان، لم يعد استعمال الألوان الزيتية دارجاً، ثمة ألوان وخامات أعدت لكي تبهر العين تماماً، بالنسبة لي أتعرف على الجديد، وأستفيد تماماً منه». لكن ذلك التطور الكبير الذي تحدثت عنه الفنانة مكي، لا يلغي ولا يجب أن يلغي دور الموهبة، فلا فن دون موهبة، ومهما استطاعت التكنولوجيا أن توفر من قدرة على التصميم والتلوين تبقى الذاكرة البصرية، والخيال الفني اللذين يشكلان أساس أي موهبة في هذا المجال أموراً لاغنى عنها إطلاقاً. وحتى برغم السهولة التي أتاحتها التكنولوجيا للعمل الفني ثمة حاجة عند الفنانة مكي ورغبة لا تقاوم، إنها جزء من إحساسها الفني لا تريده أن يموت، إنها تلك الحالة الوجدانية الخاصة التي تنشأ عند ملامسة اللون وإمساك الريشة، أو عند ملامسة الطين، إنها أشياء لا تشتري كما تعبر لنا عن ذلك بقولها: «تطورت التكنولوجيا في مجال الفنون التشكيلية، ثمة برامج كومبيوتر تعطي أي تصميم، لكن ثمة شيء آخر يتجاوز العلاقة الميكانيكية بين الفنان والتكنولوجيا، ذلك إحساس يصعب وصفه، ربما هو الألفة تجاه الريشة، واللون، حين ألامس اللون أو الطين، حين أحركهما بيدي، يكون هناك إحساس فني عالٍ عندي، وأستطيع أن أعمل بسهولة وارتياح، ربما لا يعبر عن ذلك إلا بالدفء والعلاقة الخاصة بيننا كبشر وبين بعض الأشياء من حولنا، إننا نحبها ونعتبرها جزءاً حياً منا رغم أنها جماد، وأنها مجرد أدوات». تلك العلاقة الخاصة مع اللون أو العمل الفني بمختلف تفاصيله، تصنع عند الفنانة مكي، طقساً خاصاً غير متكلف، لحظات تشبه الولادة المتعسرة، أو التي تأتي على مهل وببطء وتركيز، فمنذ بداية دخولها في أي عمل فني تتحول إلى شخص مختلف، إلى أمّ تريد إظهار أبنائها بألوان وأشكال إبداعية بمنتهى الكلمة، إخلاصها لفنها، رغبتها الطموحة في الوصول للكمال كل ذلك يقلب مزاجها وسلوكها ويجعلها بفكرها وخيالها لفترة في عالم ثانٍ، إنها الحيرة الإبداعية في أجمل تجلياتها، إنه الجانب الآخر من اللوحة أو العمل الفني الذي لا يراه المتفرجون، إنه ذلك الذي يبقى في داخل الفنان، ولا يفصح عنه إلا نادراً، وهي تعبر عنه بحب حين تقول لنا: «حين أبدأ في أي عمل أحب أن أكون هادئة تماماً، لا أتحدث مع أي أحد، فثمة حديث خاص داخلي مع العمل، مع فكرته التي أحاول إخراجها في أفضل شكل فني، سواء في لوحة أو في منحوتة، في البداية يكون هناك صراع بيني وبين نفسي، حين أضع اللون أو التصميم، وأحياناً أحس أني تائهة، بين أن أكمل العمل، أو أتركه لأنه يبدو لي في غير ما أريده، ثمة شيء ينقصه لم أتوصل له بعد، عندئذ أصبح غاضبة، ويستمر ذلك حتى أنجح في اختيار الألوان وأضبط تجانسها، حين أرتاح لفترة مؤقتة، ريثما أبدأ في العمل التالي». رحلة سيزيفية هي رحلة مكي مع اللون والانسجام والتناغم الجمالي، إن اللون موهبة هكذا تقول، وثمة ماهو أكثر من ذلك وأشد خصوصية في العمل الفني، وهو أمر يلاحظه المتلقي العادي حين يحس بالراحة البصرية والنفسية وهو ينظر إلى لوحة ما، إنه ما تصفه الفنانة مكي ب«توازن الألوان في العمل الفني، إنه مكمن الصراع الذي ينشأ في نفسي عند بداية كل عمل، ومبعث السؤال: كيف أصل إلى ذلك؟». بدأت رحلة الدكتورة مكي مبكراً من مدرستها الأولى حين كانت تقول لها مدرستها إنها ترسم بشكل جيد، كبرت الطفلة في ذلك العالم البصري الباذخ، فقررت بعد أن اجتازت مراحل دراستها الأولى أن تتخصص في الفن التشكيلي. في القاهرة حصلت على الماجستير ثم الدكتوراه، وتعرفت إلى تقنيات فنية مختلفة، كالنحت الذي درسته أكاديمياً، وفن الخزف، وفن الرسم والتصوير الذي أبدعت فيه، وتعاملت مع مختلف تقنياته بشهية مفتوحة للتجريب والبحث. وحين عادت إلى الإمارات، كان لها حضورها المتميز، فأقامت معرضها الشخصي الأول في نادي الوصل بدبي، ثم أقامت بعده أربعة معارض، إضافة إلى مشاركتها في العديد من المعارض الجماعية داخل الإمارات وخارجها. وإضافة لحضورها الشخصي كملهمة للعديد من الفنانين والفنانات الإماراتيين الشباب، ما زالت الدكتورة مكي تعمل دون كلل، وتبدع في كل حين، وما زالت ذاكرتها البصرية المشكلة من مزيج الماء والرمل والرائحة العطرية مفتوحة على دهشة البداية، وكأنها طفلة ولدت للتوّ
مشاركة :