فائق العبودي بين الحضارة والحداثة

  • 7/13/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

إن الحضارة بمفهوم شامل تعني كل ما يميز شعبا أو أمة عن أمة وشعب آخر، من حيث العادات، والتقاليد، وأسلوب المعيشة، والأزياء، والتمسك بالقيم الدينية، والأخلاقية، وممارسة بعض الطقوس التي تتعلق بميراث الأجداد للأحفاد، ومقدرة الإنسان في كل حضارة على الإبداع في الفنون والآداب والعلوم. أما الحداثة: فيمكن أن تقدم نظرة ثاقبة للثقافة المعاصرة، وهي تشمل جميع الجوانب الحضارية المتوارثة عبر الأجيال، بوجود الإنسان، والحيوان، والزمان، والمكان، والحداثة مسار مطلق، ومفتوح، لا يحدد بنهاية، وإنما يحدد هذا المسار بوقفات إبداعية في كافة مجالات الحياة. وهنا نتحدث عن الفنان التشكيلي العراقي فائق العبودي كسمة متقدمة، وحالة متميزة ما بين الإرث الحضاري، والحداثة. في نهاية القرن العشرين ظهر تيار من الفنانين الشباب في العراق، وبزخم كبير، هؤلاء الشباب ممتلؤون بالأفكار المتأثرة بالموروث الحضاري والشعبي، إضافة إلى تأثيرات المدارس والأساليب الفنية الحديثة، وبحرية التعبير والاختيار والتصرف، اختار كل شاب طريقه البحثي، نحو تجربة ذاتية، ومن هذا المخاض الواسع المتغير، استطاع عدد قليل من هؤلاء الشباب الدخول إلى حقيقة المفاهيم والتصوير للموروث الحضاري والشعبي والمحلي، "وهو موروث حضاري عميق وغني - إنه موروث حضارة وادي الرافدين" الغني بجوانبه الحياتية المختلفة عبر الحقب الزمنية المتراكمة منذ مهد الحضارة الأول - الحضارة السومرية، وهؤلاء الشباب على قلتهم كانوا يمتلكون إحساسا جماليا، ورؤية متجددة للقيم الثقافية والفنية، وأخص في مجال الفنون التشكيلية العراقية منها والعالمية. الفن التشكيلي العراقي المعاصر زاخر وثري، بما قدمه من فنانين عراقيين تشكيليين كبار على مدى أكثر من قرن ابتداء من عبدالقادر رسام، مروراً بتأسيس معهد الفنون الجميلة عام 1936، وافتتاح قسم الفنون التشكيلية في بداية الأربعينيات من قبل الفنان التشكيلي جواد سليم، والفنان فائق حسن، بعد استكمال دراستهم في روما، ولندن بالنسبة لجواد سليم، ومن فرنسا بالنسبة للفنان فائق حسن، وامتدت الأعوام وكان ولا يزال التاريخ حافلا بتطور الحركة التشكيلية العراقية بالرغم من الأحداث التي مرت على العراق، من ثورات، وحروب، وسياسات مختلفة، إلا أن الفن التشكيلي، وكسائر الفنون الأخرى لم يتغير مسارها، لأن جذورها تاريخية، وحضارية عميقة. ولنأتي ونختزل الزمن والحقب التاريخية، للوصول إلى بداية سنوات التسعينيات من نهاية القرن العشرين. ظهر الفنان التشكيلي فائق العبودي - وهو عراقي متجذر بالحضارة السومرية - في بداية التسعينيات، واستطاع بمثابرة ذكية أن يتقدم ويصبح في الخط الأول للفنانين التشكيليين العراقيين الشباب، وبرز بأعماله الفنية التقليدية منها، والبحثية المخفية تحت المشاعر والأحاسيس نحو التجديد، واستطاع أن يقدم مشاركات متواضعة ضمن المعارض الجماعية التي كانت تقام على صالات وقاعات الفن التشكيلي في بغداد، مواصلا ومتابعا بروح متقدة وجادة، وبحيوية الباحث المتبصر. وكان الطموح لا يفارقه، الذي تملك الفنان آنذاك للوصول إلى هدفه المنشود والصحيح، لكي يواصل مشواره البحثي الفني، وكان يصارع الواقع، ما بين وضعه الاجتماعي، وظروف الحياة، وما بين أحلامه، ومصاحبة الزمن الصعب، والأفكار التي كانت تراوده في كل خطوة يتقدم بها، إلى أن وصل الحال به إلى أن يتخذ القرار بالهجرة إلى بلد أوروبي، ليعيش محيطاً أوسع من الحرية والانفتاح، لأن السنوات التي ظهر فيها الفنان فائق العبودي، كانت سنوات عجافا، فهي سنوات الحصار القاسي على وطنه وشعبه، هذا الحصار الذي حرم العراقيين من التمتع ليس بالحياة والعيش فقط، وانما من قدرتهم على إكمال بحوثهم العلمية والفكرية، والفنية، وأشياء أخرى تدخل في صلب التطور والحداثة. والكثير من أمثال الفنان العبودي، غادروا أرض الوطن، من فنانين شباب بمختلف الاختصاصات الأدبية والفنية، من أجل الطموح، لتوسيع دائرة مشاركاتهم الفنية والأدبية لإغناء تجاربهم نحو الإبداع، وبعيداً عن أي تصور آخر، كان هدف الكثير منهم هو ممارسة الفن والأدب أولاً وأخيراً. كان الفنان فائق العبودي من ضمن هؤلاء الشباب، استطاع وبأعوام الغربة وشظف العيش والمعاناة أن يثبت بصمته الإبداعية في الفن التشكيلي العالمي، بالرغم من قصر السنوات التي قضاها كمغترب يعيش في سويسرا (لوزان)، وهو يحمل هموم كثيرة، هموم الوطن والغربة، وبرفقة أطفاله الثلاث، بعد أن فقد زوجته التي كانت يد العون له في الوطن. الفنان التشكيلي العراقي فائق العبودي تحمل عبء الكثير من المعاناة الحياتية، وبجهادية كبيرة، استطاع أن يجتاز الكثير من العثرات بحيث يقف الآن على بوابة تشرف على عالم متجدد بأعماله الفنية التي نشاهدها حالياً. • الحديث عن الأعمال الفنية للفنان العبودي: من الوهلة الأولى للنظر والاطلاع على لوحاته الفنية، ومن خلال النظرة الحسية التي تطلقها العين على كل جزء من أجزاء اللوحة، فإذا برموز، وأشكال، وألوان تتهافت وتزدحم، وفق سلم موسيقي متفاعل، وبذبذباتها المتجانسة منها والمختلفة، وتأثيرها على أذن المشاهد بحيث إن اللوحة تعزف لحناً، يختلف عما نسمعه من ألحان نغمية تقليدية، وعندما يتم التركيز والتفاعل مع العمل الفني المنتج للفنان العبودي، ينتابنا شعور التنقل ما بين الزمن الماضي والحاضر، مروراً باللحظة التي تفسر لنا الفارق ما بين الفن القديم، والفن الحديث. كما يرافقنا شعور نفسي وروحي، بمحاكاة المساحات اللونية، المتضادة منها، والمتآلفة والأشكال المختلفة، الغائرة منها، والبارزة، وعندما يتعمق المشاهد في النظر إلى اللوحة تنعكس الرؤية البصرية للاتصال بالتفكير، وهنا يبدأ الحوار والتساؤل عند المشاهد: ما هو السبب الذي أوقفني لمشاهدة اللوحة؟ ولماذا أفكر؟ فلا بد أن تكون هناك استجابة، أو جواب يفسر لنا مدى القيمة الفنية الابداعية التي يعكسها العمل الفني تجاه عين المشاهد، ولعبة التناغم ما بين الارتياح والانفعال، بحيث إن المشاهد يغادر العمل الفني وهو في حلم دافئ، ولا يسعفه الحال إلا أن يعود لمواصلة التفكير بما شاهده من أشياء، وأشكال، وألوان، دخلت على عالمنا الصاخب المبعثر، لتشارك الأعمال الابداعية، وتفيض عليها بعضاً من سمات الجمال، والتفكير، من أجل تنظيم السلوك الإنساني، وإنقاذنا من بعض الصخب الذي أصاب حياتنا، إن كان سياسياً، أو اقتصادياً أو فكرياً. من يمتلك ثقافة غنية بالموروث الحضاري، والتراث الإنساني، سيجد أن هذا الحوار مجدٍ، وإيجابي في آن واحد، وصولاً إلى الإعجاب والتمتع بهذه الأشكال الإبداعية، المستجدة من تراب أرض غنية بالكثير من فلسفة الحياة، منذ وجود الإنسان وظهوره في أرض سومر، وبابل، وآشور وأكد. لوحات الفنان العبودي سيمفونية حضارية خالدة، هكذا يتصور المشاهد الذي يتصف بثقافته الفنية الواسعة، أما رؤية المشاهد الطبيعية، المحب للفن التشكيلي فإنه يتمتع بإحساس مغاير ومختلف، وقد ترجح كفة الميزان نحو الجانب الجمالي، والإيقاع المتفق مع احساسه وفق ذبذبات التناغم اللوني، والأشكال المنعكسة برموز طلسمية، والتي لا تخلو أبداً من شاعرية المضمون المخفي. تأخذنا هذه الوقفة، وهذه الرؤية للتوسع في قراءة الجانب الرمزي والفلسفي، وحتى الميثيولوجي في أعمال الفنان العبودي، وهذه الرموز التي التقينا معها تشابه تلك الرموز التي استخدمت عبر حضارات مختلفة عاشتها البشرية منذ الخليقة الأولى، منها ما اتفق عليها، والقليل ما اختلف حولها، هذه الرموز والطلاسم استخدمها الإنسان البدائي، كأثر يترك على الأماكن التي عاش فيها وسكنها، كالكهوف، وأماكن أخرى، وهناك التصق الإنسان بظواهر التعرية الطبيعية، التي أخذت أشكالا ترمز إلى عوالم مختلفة، ظهرت في أماكن واسعة من هذا الكون المسكون، عبر آلاف السنين، كالتماثيل الصخرية التي ظهرت في جزيرة الماواي في "تشيلي". إن متطلبات المعرفة حول هذه الظواهر، لا يزال الإنسان يبحث في مجالاتها، كأشكال فنية جمالية، فكرية، حسية، سحرية، ميتافيزيقية، وترتكز هذه البحوث على الأساس الهيكلي في العلوم الإنسانية للوصول إلى نتائج علمية منها، وفلسفية أفقية البحث والمساحة المفتوحة، ما بين الإنسان، والطبيعة، والوجود. الفنان فائق العبودي، عندما يريد أن نتلمس وجدانيته، نحسها في التشكيل الصوري، هذا التشكيل الذي امتلأت فيه المساحات المرئية في كل عمل فني قام بتنفيذه، من انغماس لوني، وعناصر جمالية وإيقاعية، مسكونة بالإرث الحضاري العراقي، والفنان فائق هو ابن حضارة سومر، الذي انغمس في نسيجه الفطري، وفي تكوينه الجيني والفيزيولوجي، المتوارث عبر مئات السنين، وهو امتداد الأحفاد للأجداد، ويظهر هذا الموروث في أعمال الفنان العبودي بأشكال رمزية، وكأنها تتحدث عن أساطير سابقة، وحكايات لاحقة مستقبلية، تتواصل بسلسلة الإبداع والرقي، ليحقق نسبة من الجمال الظاهر منه، والمخفي هو الأكثر، ليشكل توافقا ذهنيا شفافا بين العمل الفني، والمتلقي "المشاهد"، وعندما نستمر في متابعة الأعمال الفنية المنتجة للفنان، سنكتشف الجديد من المواضيع، والدلالات، وما طرأ من متغيرات في إنتاجه الفني، نحو تواصل الإبداع لإغناء حياة الإنسان في هذا العالم الصاخب. إنه ليس من الغرابة لدى الفنان العبودي، أن يتحدث عن مكنونات يعيشها إن كانت ضمن العقل الباطني، أو حالة يمارسها بشكل طبيعي، من خلال تفاعله مع المحيط الذي عاش فيه سابقاً، والمحيط الجديد الذي يعيشه حالياً، ولكن الفنان يبقى في مساحة التداعيات والتطلعات للبحث عن رؤى جديدة، وعن إبراز ما يخفيه من مشاعر داخلية معفرة بنمط حضاري وتراثي أصيل، ولديه مخيلة واسعة، تظهر عبر الرموز والأشكال التي يستخدمها بألوان ذكية تتفق مع سلم الإبداع الفني، وهذه الرمزية تساعد الفنان على انصرافه الكلي في تنوع لغته، وتوافق هذه اللغة مع مختلف لغات العالم. وهي لغة مستمدة من الخطوط المسمارية، والنقوش البابلية، والآشورية، والأكدية، لكن باختيار مستحدث معاصر، متوهج بالحيوية، بإخراج لوني متنوع، وتقنية متوازنة مع بقية العناصر الفنية التي استخدمت في إظهار ونتاج اللوحة لدى الفنان العبودي. الفنان فائق العبودي يرسم الواقع الذي يتخيله برمزية ذكية، والمعاني لهذه الرمزية قد تداخلت مع أحلامه، وتواصلت إلى مدلولاتها، وكشوفاتها، لتصل في النهاية إلى تأثيرات يعكسها الواقع التنفيذي على اللوحة، بمفهوم حسي مملوء بشغف الإنسانية، المتأثر بما تعرض له الفنان، ومجتمعه العراقي من ألم وفرح، وحب وتضحية، وحاجة واغتراب، وغيرها من العثرات لمركونة على طريق المفهوم الإنساني، لكن الفنان استطاع أن يستمر في الطريق الصحيح بمحرك وشعور الهمة القوية والإصرار لتحقيق هدفه الإبداعي لإغناء المفهوم الإنساني الذي التصق به كفنان. لا بد أن أختم هذا المدخل البحثي، وليس النقدي، بالحديث عن الفنان العبودي، على أنه مدخل إرشادي ليغير، ويبين لنا أهمية البحث والمتابعة لأعمال الفنان الموجودة حالياً، واللاحقة منها مستقبلاً من نواحي وجوانب مختلفة في المسميات والمواضيع والأشكال، وما هي معاني هذه الأشكال؟ ولاستكمال هذا المدخل البحثي، لا بد وأن نضع التساؤلات التالية: • ما هي معاني الأشكال والرسوم المستخدمة في أعماله الفنية؟ وأصولها وتجذرها؟ • ما هو مضمون العمل الفني وأبعاده الفكرية والحسية؟ • السمة الجمالية الكامنة منها والظاهرة في أعماله الفنية؟ • مدى تفاعل المتلقي كمشاهد للأعمال الفنية التي يعرضها الفنان العبودي، وما هي ردود الأفعال؟ • الجانب الفكري والفلسفي في أعمال الفنان؟ وهذا الجانب مهم جداً، وقد يتوسع على مدى حياة الفنان، مادام الفنان يسعى لتقديم نتاجه الفني المتعاقب عبر المعارض الفنية الشخصية، أو المشاركات في معارض ومهرجانات تشكيلية العربية منها والدولية؟ • مجموعة الظروف والظواهر الجديدة المحيطة بالفنان، وتأثيراتها؟ • البيئة الطبيعية التي تحيط بالفنان، من شمس وغيوم وجبال وسهول وأمطار وغابات وبحار؟ لقد أصبح العمل الفني يتطور بتطور الفنان، وهذه بديهية، فكلما زادت خلايا المعرفة لدى الفنان، اغتنت الوحدات المستخدمة في عمله الفني، وبتجاوز الفنان نطاق الحركة الساكنة إلى المتحركة، في ارتباط تكاملي مع التقدم الحضاري المعاصر، يحدث التفاعل الايجابي في تطوير العمل الفني.

مشاركة :