وهج الكتابة: القراءات المبكرة 2/2

  • 7/14/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في الحلقة السابقة تحدثنا عن القراءات الأولى المبكِّرة التي شكَّلت وعينا أنا وأبناء جيلي. فالقراءة نوع من زرع البذور في الروح والفكر والذاكرة، في زمنٍ لم يكن لدينا أي شيء يسلّينا غير القراءة فلم يكن هناك كمبيوتر أو وسائل تواصل اجتماعي أو آيباد أو هواتف ذكية. ربما كان ذلك من حسن حظنا حيث تمكّنا من تربية أفكارنا وزرع المبادئ الإنسانية والوطنية في دواخلنا. فمن لا يقرأ أو لم يعتد ممارسة القراءة فكأنه فقد متعة العمر وعطايا الحياة. بدأت عادة القراءة لديّ شخصيا منذ الصف الثالث الابتدائي حيث كنتُ التهم قصص الأطفال التهامًا، ومنذ الإعدادية بدأت وعديد من أبناء جيلي في قراءة الروايات العربية والعالمية وكانت للموجة الناصرية دورها في إغراقنا بالحماس وعشق المعرفة والتعمق في الأفكار السياسية والإنسانية. في السنوات الأخيرة من الثانوية أصبحت قراءاتي أوسع، حيث تعرفتُ لأول مرة على كتابات الشهيد غسان كنفاني حين وقعت بين يدي «أرض البرتقال الحزين» وهي عبارة عن مجموعة قصص قصيرة، وما زلت أذكر أنني عندما انتهيت منها خبأت وجهي تحت اللحاف وأجهشت في بكاء عميق. غسّان زرع فلسطين في قلبي وروحي، لتصبح القضية بالنسبة إليّ قضية مقدسة وخطا أحمر لا مهادنة فيه. في تلك السنوات أصبحتُ من القرّاء المداومين على قراءة مجلتي «العربي» الكويتية و«الهلال» المصرية. هاتان المجلتان فتحتا لي الطريق واسعًا أمام معلومات هائلة عن تراثنا العربي والإسلامي وحتى العالمي. في هذه الفترة بدأ نجيب محفوظ يسلب اهتمامنا، ما دعاني إلى قراءة كل رواياته - التي أصدرها حتى ذلك الحين - في المرحلة الثانوية لدرجة أنني تعرفت على الكثير من أحياء القاهرة قبل أن أزورها للمرة الأولى. كان لكتابات الكاتبة السورية غادة السمان مكانة خاصة بسبب اللغة الآسرة التي كانت تكتب بها رواياتها مثل «لا بحر في بيروت» و«عيناك قدري» وغيرها. كان للكاتب محمد الماجد - رحمه الله- دور كبير في تعريفنا بالأدب العالمي وخاصة الوجودي وذلك من خلال مقالاته في صحيفة الأضواء. فانكببنا على قراءة روايات الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر وروايات الكاتب الفرنسي البير كاميه ثم الكاتب الإنجليزي كولن ويلسون والكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا. تلك الكتب التي وصلت متأخرة إلى عالمنا العربي وكل ذلك بفضل دار الآداب التي استمرت فترة طويلة تترجم الأدب العالمي وتوزعه. كنا في ظمأ شديد لكل تلك الثقافات على الرغم من أن الأدب الوجودي قد زرع فينا الكثير من الإحساس بالعبث والاغتراب الوجودي الذي ما زال تأثيره قائمًا حتى اليوم في نفوسنا. ومن الروايات التي أثرت في شخصيتي كثيرًا رواية «زوربا» للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، تلك الشخصية التي اخترقت حدود اللغة والحكاية. هذه الرواية تم تحويلها إلى فيلم سينمائي ولعب دور زوربا الممثل الأمريكي المكسيكي الشهير انتوني كوين الذي أجاد الدور بشكل مبهر، حتى أن رقصة زوربا التي كان يؤديها البطل انتشرت وكنتُ أيام الشباب الأولى أقلده باستمرار، وربما حاولتُ أن أكتسب بعض سمات زوربا، هذا الوجودي اللا مبالٍ. ومن الروائيين الآخرين الذين حظوا باهتمامنا الروائي الأمريكي ارنست همنجواي وخاصة رواياته العظيمة «وداعًا للسلاح» و«لمن تقرع الأجراس» و«الشيخ والبحر» والروائي التشيكي كافكا الذي كان يكتب بالألمانية والمشهور بكتاباته الكابوسية مثل «المحاكمة» و«المسخ». بعد تلك الفترة ومع تمدد التيار اليساري بعد هزيمة حزيران بدأ الإقبال الكبير على قراءة الأدب الروسي وكنا نتسابق على قراءة روايات تولستوي وديستوفسكي ومكسيم غوركي وتشيكوف وغيرهم. في عام 1970 كنت في زيارة للقاهرة وعند سور الأزبكية اشتريت المجموعة الكاملة لديستوفسكي بمائة جنيه فقط. سامح الله الذي استعارها ولم يرجعها منذ ذلك الزمان. وعلى صعيد الشعر كان لشعراء المقاومة الفلسطينية تأثير كبير علينا مثل محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وكنا نحفظ أشعارهم ونرددها. كما أثارتنا ظاهرة الثنائي المصري الشاعر أحمد فؤاد نجم والموسيقي الشيخ إمام اللذين كانا يعبران عن تلك المرحلة الثرية من ذاك الزمن الجميل الذي كسرته الريح إلى جانب ابن المرحلة الستينية بحق الشاعر المصري أمل دنقل، الفتى الجريء الذي حاربته السلطة وهزمه السرطان ومضى وهو يردد «لا تحلموا بعالم جديد فخلف كل قيصر يموتُ قيصرٌ جديد». رحلة طويلة بدأت ولن تنتهي.. إنها رحلة الثقافة.. النكهة الساحرة للحياة!

مشاركة :