لا أدري من عَلَّمني عَادةَ القَراءة منذُ الطفولة قلتُ مرةً إنني أبحثُ عمن أشارَ عليّ بالقراءة وحب المعرفة حتى أقتلهُ لأن المعرفةَ هي الجَحيم كما قالَ الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بحثتُ ولم أجد ولكنني تذكرت لاحقًا إنني كنتُ أرى شقيقي الكبير المؤدلج في ذلك الزمان، رحمه الله، يقرأ يوميا عندما يعودُ من عمله ولا أتذكّر أنه شجّعني فقد كنت صغيرًا واختفى من البلاد قبل أن أبلغ سن المراهقة. ومن المؤكد أن رؤيتي له، وهو عاكف على القراءة كان لها تأثير إيحائي أو غير مباشر شجّعني على القراءة والاطلاع منذ أن كنت في الصف الثالث الابتدائي حيث قرأت بنهم شديد العشرات من قصص الأطفال إلى جانب مجلة سندباد ثم سمير وميكي المصرية ودنيا الأحداث اللبنانية. حينما بلغت الصف الأول الثانوي (يعادل أول إعدادي حاليا) قرأت رواية «البؤساء» للكاتب الفرنسي فيكتور هوجو وكانت صعبة نسبيا حتى أنني بعد سنوات طويلة شجعت أطفالي على قراءتها وحين فتحتُ الكتاب وجدتُ بين صفحاته ورقة مكتوب عليها كل الكلمات الصعبة التي لم أفهمها في ذلك الزمن البعيد. هذه الرواية شجعتني أو ربما حرضتني على قراءة رواية «الأم» للعملاق الروسي مكسيم جوركي. وفي خضم التفاعلات السياسية في كل أرجاء الوطن العربي وفي عز المرحلة الناصرية التي أشعلتنا حماسًا قوميًا متدفقًا وزرعت داخلنا أحلام الوحدة والحرية بدأت أنا وصديقي الحبيب على الشرقاوي - الله يشفيه ويحفظه - في تداول كتب الكاتب ساطع الحصري الذي اتخذ لنفسه مسارًا فكريا خاصًا يقوم على بعث المشاعر القومية والتنظير الأيديولوجي لفكرتها، فكانت معظم مؤلفاته مشدودة إلى الهم الوحدوي حتى عُرف بفيلسوف القومية العربية. هذا الكاتب اسمه الكامل ساطع بن محمد هلال الحصري، ولد في صنعاء عام 1879. وتوفي في بغداد عام 1968 وهو سوري الأصل. وخلال حياته أصدر العديد من الكتب، أشهرها: حول القومية العربية، ودفاع عن العروبة، والعروبة أولاً، وصفحات من الماضي القريب وآراء وأحاديث في القومية العربية وإذا لم تخني الذاكرة فقد قرأنا كل هذه الكتب عندما كنا في ثانوية المنامة. الأمر المثير أن ساطع الحصري، في مرحلته العثمانية، حيث أكمل دراسته الجامعية في تركيا، كتب ونشر نصوصًا باللغة التركية - العثمانية اعتبر فيها الدين مكوِّنًا رئيسيا من مكوّنات الوطن - الأمة، الأمر الذي عاد فأهمله إلى حد بعيد لدى تنظيره للقومية العربية. كان الفكر القومي قد سيطر علينا خاصة أننا كنا آنذاك من أبناء الحورة، أحد معاقل القوميين العرب إلى جانب المحرق وفريق الفاضل، ما شجعنا على قراءة الكثير من الكتب القومية الأخرى وخاصة القصص التي تتناول القضية الفلسطينية، والغريب أننا في تلك المرحلة كنا معجبين بالكاتب خالد محمد خالد وهو كاتب إسلامي مصري يكتب بلغة جميلة وجذابة. وفي فترة الصبا بدأت بقراءة كتب الكاتب لطفي المنفلوطي مثل العبرات والنظرات والفضيلة أو بول وفرجيني، فضلاً عن بعض كتب العقّاد وطه حسين. كما قرأنا العديد من قصص وروايات إحسان عبدالقدوس خاصة رواية «في بيتنا رجل» ويوسف السباعي خاصة رواية «رد قلبي» فهاتان الروايتان كانتا ضمن إيقاع الفترة الناصرية الجميلة قبل أن نتعرف على نجيب محفوظ الذي أدخلنا عالمًا مختلفًا. كان نزار قباني الشاعر المسيطر على اهتماماتي أنا ومعظم أبناء جيلي فيما كنت معجبًا بالشاعرين الشيخ أحمد محمد آل خليفة وغازي القصيبي اللذين أثرا كثيرًا في تجاربي الشعرية الأولى قبل أن أتعرف على السياب والبياتي وبلند الحيدري وصلاح عبدالصبور الذين كان لهم الدور الأكبر في تشكيل تجربتي. كان ذلك كله قبل السقوط المدوي للفكر القومي في حرب حزيران 1967. كل تلك القراءات المبكرة أسهمت في تشكيل وعيي المبكر وقذفتني ككتلة من النار في الساحة الثقافية. (يتبع) Alqaed2@gmail.com
مشاركة :