لا تحضر ضربات الريشة في أعمال الداود، بل يركّز على المزج على “الكانفس” تاركا للألوان حرية الظهور والتداخل، ما يثير سؤال الضوابط الجماليّة والتقنيّة التي يوظفها ليصل إلى ما هو “نهائيّ”. بصورة أدق، هل يمتلك الداود لديك تخيلا مسبقا عن النتيجة، فيجيب بأنه لا توجد ضوابط لما هو مناسب في عمله الفنيّ، لأن وجودها يعني تحول العمل إلى جملة من المعادلات الرياضية، فهو يرسم كما يشعر خصوصا أن أجمل مراحل العمل هي اللحظات التي يقوم فيها ببناء طبقات من الألوان على القماش معيدا إياها مجددا دون خوف من البداية. ويضيف “على الفنان أن يخاطر لأن السعادة المصاحبة لانتهاء العمل تخفي كل مراحل الضياع التي كانت سابقا، فالعمل الفني بالنسبة لي هو حقيقة في عالم مليء بالأشياء المزيفة يحمل جاذبية وسحرا خاصا به، ومنذ بداية بحثي الفني دائما ما كان يستهويني اللون كوجود طبيعي على سطح العمل دون تدخل، لأترك الحرية لتداخلات لونية تبقيني مستمتعا لنتيجة دائما ما تجعلني أبدأ بتخيل تلك الأشكال التي أفكر بها وكيفية تلاقيها مع ذلك المزيج اللوني على سطح العمل”.يؤمن الداود بالتجربة المستمرة، فالفنان يقدم ذلك المشهد الصامت الذي لا يستطيع قوله ككلمات، أما المفهوم فمرتبط بالتجربة المتغيرة دوما، فكل مرحلة فنية بحاجة إلى حساسية جديدة يرتبط بها، فهو لا يعمل تحت جملة من القواعد المكررة لإنجاز العمل الفنّي إنما يحاول دائما خلق مفهوم جديد للوحته القادمة، فكل عمل يجب أن يحمل سحرا خاصا به. ويضيف “أريد التأكيد على كلمة سحر فهذه الكلمة تستحوذ على كامل تفكيري عند العمل في مرسمي، فلكل عنصر في الحياة سحر مرتبط به وبكينونته، وهذا ما أحاول تجسيده في لوحاتي فكل عنصر وكل مساحة لونية يجب أن تحمل سحرا وجاذبية لتكمل ذلك المشهد الذي أحاول الوصول إليه”. تتلاشى الحدود ضمن التكوينات في لوحات الداود، وكأنه لا توجد مساحة صلبة، وكأن الشكل يُحتوى بناء على امتداد مساحة اللون، لنرى أحيانا أشكالا دون مرجعيات واقعية أو فنيّة وأحيانا لوحات دون اسم، فما الذي يراهن عليه الداود في هذا التحرر من المرجعيّة؟ فيجيب “لا أستطيع وضع حواجز أو قيود فأنا أهرب من كل تلك القيود التي تحيط بنا إلى داخل مرسمي لأرسم هذا العالم المتخيل الذي أحلم يوما ما بالعيش بداخله، فاليوم أصبحت أرى تلك الأشكال على قيد الحياة بقربي فكل شيء أراه من حولي يتحول إلى شكل لوني على القماش تستهويني تلك الكتل الإنسانية الضخمة المنهكة وكأنها أقرب إلى عمل نحتي ولكن كما ذكرت سابقا أن لكل مرحلة وعيها الخاص بها فأنت كفنان يجب أن تقدم شيئا جديدا لتخلق حالة متجددة، لا أرغب بأن أعيد عملا أتقنته مرارا مع تغيير اللون، هذا يشكل ورطة الوقوع في التكرار ومن المفروض أن كل مرحلة مختلفة عمّا قبلها.وما أطمح له في أي عمل فني أبدأ به هو أن أخلق حالة خاصة بي بغض النظر عن معرفتي بتاريخ الفن فليس لدي قانون أو قواعد فنية أتبعها أثناء العمل وإنما أترك لنفسي الحرية الكاملة لخلق عمل متفرد وذاتي”. يقول الداود إنه منذ بداية بحثه الفني كان يبتعد عما هو جمالي فقط، ما يهمه بالدرجة الأولى هو أن يجذبه العمل، وأن يضع ما يشعر ويفكر به على سطح اللوحة. أما الجمالية فهي نتاج مجموعة من العوامل التي تظهر عند نهاية العمل ويضيف “في معظم أعمالي هنالك كتل تبدو ذات ثقل ولكنها طافية دون ارتكاز على الأرض، وفي اللوحات التي أعمل عليها الآن تبدو هذه الفكرة أوضح، السبب يعود إلى رغبتي بتصوير الأشياء والشخوص في حالتها البدائية متحررة من القيود والضوابط التي فرضت عليها لذلك أسعى لتصوير كل كائن أرسمه ضمن علاقة حيّة مع الطبيعة وكجزء لا يتجزأ منها، فدائما ما أشعر بأن العمل متحرك في رأسي يمكن لكائناتي الطيران والمشي والحركة ضمن فضاء العمل ومن الطبيعي أن تجعلني هذه الحركة المتواترة أشعر بعدم انتهاء العمل وبأنه مستمر وأن القرار بإنهائه هو قرار أناني”.سألنا الداود عن الخصائص السياسيّة التي يمكن أن تكتسبها لوحاته بسبب مساحة عرضها “بيروت- دمشق” وما هو مقدار الحذر الذي يتوخاه حين المشاركة في معرض ما، فيجيب بأنه يعيش في دمشق ضمن ساحة الحرب الدائرة، ولا يمكنه أن يعزل نفسه عنها بأي شكل من الأشكال عن آثارها التي تظهر في حياته وأعماله بطريقة ما ولكنه لا يسعى أبدا لأن يسوّق أعماله ضمن مرحلة معينة أو تيار معين. ويضف “لدي قناعة عميقة بأن اللوحة لا يمكن لها أن تغير ما يحدث، كذلك لا يمكنني تصوير ما يحدث بشكل مباشر لأني أشعر بالابتذال حينها فأنا أؤمن بالجمال ضمن العمل الفني فلا أستخدم لوحة لاستدرار عواطف المتلقي وتسويق عملي تبعا لحالة إنسانية”.
مشاركة :