على غرار وقتنا الحالي، كانت حصص الهجرة أحد جوانب التحول الانفصالي آنذاك متعلقة بسياسات الهوية، فقد واجه المهاجرون الأوائل من الجزر البريطانية واسكاندينافيا، أغلبهم من البروتستانت، صعوبات بسبب المهاجرين القادمين من دول جنوب وشرق أوروبا، التي كان معظم سكانها من الكاثوليك. وكانت المحاكمة الشهيرة في عام 1921 لنيكولا ساكو وبارتولوميو فانزيتي بتهمة القتل، وهما إيطاليا المولد منتميان للفكر الفوضوي، تجسيدا للشكوك بشأن ما سمي "المهاجرين الجدد". والشاهد أيضا قانون الهجرة لعام 1924 الذي حدد حصص الهجرة، ليس على أساس الحصص الحالية للسكان، لكن على أساس حصص مختلف مجموعات المهاجرين في عام 1890، أي قبل قدوم عديد من تدفقات المهاجرين الجديدة. وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، اتقدت مشاعر العداء تجاه المهاجرين من أصحاب البشرة السمراء، الذين تحدثوا لغة مختلفة ومارسوا دينا مختلفا، ولا سيما خلال فترة عودة المكسيكيين من عام 1929 حتى نهاية 1936، التي كان الهدف منها ترحيل نحو مليوني مكسيكي ومكسيكي - أمريكي. لذلك، فإن التوجهات الانفصالية دائما ما كانت حاضرة في الفكر السياسي الأمريكي، لكنها تكون أقوى ما تكون في ظل الاضطرابات الاقتصادية وشواغل الهوية، وهو ما ينطبق على العشرينيات والوقت الحالي. وكان الخطأ الجوهري الآخر في معاهدة فرساي، هو حرمان القوى الصاعدة من المشاركة، فقد تم استبعاد ألمانيا من عصبة الأمم حتى عام 1926، وواجهت قيودا دائمة على قوتها العسكرية، وكانت استقلاليتها الاقتصادية محدودة، ولا سيما نتيجة منعها من إقامة اتحاد جمركي مع النمسا، وأدت هذه القيود إلى نزعة قومية هدامة أدت في نهاية المطاف إلى انهيار فايمار. تدهورت الأوضاع في روسيا، التي أجرت مفاوضات سلام منفصلة مع ألمانيا في 1918. وعلى الرغم من أن ممثلي المجلس الروسي المؤقت المناهض للبلاشفة حضروا مفاوضات "فرساي"، تم استبعاد البلاشفة. لذلك، عندما تم إنشاء الاتحاد السوفييتي عام 1922، لم يكن بإمكانه المشاركة في إعادة بناء النظام الدولي. وانضمت بالفعل الدولة السوفييتية الجديدة إلى عصبة الأمم أخيرا عام 1934، لكن بصفة مؤقتة. وفي هذا الوقت، كان الاتحاد السوفييتي مستبعدا بالفعل من الترتيبات الاقتصادية والمالية الغربية، ما مهد لتشعب الاقتصاد العالمي، والعالم، إلى تكتلات سوفييتية وغربية. وفي الوقت الحالي، تسعى الصين سعيا حثيثا إلى تعزيز وضعها في الساحة العالمية. والسؤال هنا، هل ستمارس نفوذها من خلال المؤسسات متعددة الأطراف، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أم من خلال أدوات تصممها بنفسها من أجل تعظيم نفوذها الاقتصادي والسياسي عالميا، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية ومبادرة الحزام والطريق؟ وفي حال قيامها بالاستثمار وتقديم المساعدة من خلال الصندوق والبنك الدولي، ستخضع بذلك للقيود المؤسسية الحالية، وسيمكن للأعضاء الآخرين موازنة نفوذها. وإن لم تفعل ذلك، ستتمتع بقدر أكبر من الحرية لفعل ما يحلو لها. وتزداد احتمالات حدوث ذلك في ظل امتناع الولايات المتحدة وغيرها من الدول عن منح الصين صوتا أكبر في مؤسستي بريتون وودز. ولنا في فشل معاهدة فرساي تذكرة بضرورة قيام القوى المهيمنة بدور قيادي في تشكيل ودعم التحالفات والمؤسسات التي تسهم في تحقيق الاستقرار، والحاجة إلى دمج القوى الصاعدة على نحو بناء في هذه الترتيبات. ويبدو أن الولايات المتحدة نسيت هذه الدروس حاليا، لكن السياسات الأمريكية شهدت تحولات انفصالية من قبل. والسؤال هنا، هل كان نسيان هذه الدروس أمرا مؤقتا أم دائما؟.
مشاركة :