الدولة الناضجة، هي تلك التي تنقل مؤسساتها من حالة الركود إلى حالة الإبداع، وتنهض بقرارها الإداري من دائرة القلق إلى مساحات الحرص. والقائد الإداري المؤهل لا يناله الارتباك، ولا يستبد به الشلل في اتخاذ القرار المناسب، ويدرك مساحات الاجتهاد في القرار الناجز، ومسافات الانزلاق نحو براثن الفساد، أو الهدر غير المبرر للمال العام، والخوف من اتخاذ القرار هو أحد مراتب الفساد بطريقة، أو بأخرى ما دام هذا الخوف قد عطل الخدمة العامة، أو الثقة في حسن سير المرفق العام، والمدير الخائف المرتبك لا يصنع الإنجاز ولا يخلق الاستقرار، والثقة للأداء العام من جهة، ويحرم الآخرين من إنجاح المؤسسة، أو اتخاذ القرار الملائم، ويربك الأداء الإداري دون مبرر من جهة أخرى.ثمّة خلط غير مبرر بين الخسارة الناشئة عن الاجتهاد الواعي، والهدر الناجم عن التقصير، أو سوء الإدارة، أو التأخر عن اتخاذ القرار في وقته المناسب. فالأولى، مبررة وتحدث في أكثر الدول شفافية، وحرص، ودقة. والثانية، جرم يستحق العقوبة ويستوجب المساءلة. والمؤسسات الرقابية التي تعجز عن إدراك الفرق بين هذه وتلك، وتغرق الأداء الإداري بتساؤلات لا تعبر عن مهنية، واحتراف في عدم المزج، والخلط بين خسارة الاجتهاد الواعي، والهدر في المال العام، والثقة العامة؛ هي بالضرورة مؤسسات يشوبها الخلل، وينطبق عليها ذات الفرق الذي ذكرناه. وتستحق المساءلة المباشرة باعتبار أن الافتراض يشي بأن المؤسسات الرقابية أكثر احترافاً، ودقة، ومهنية ولا يقبل منها الخلط، والتستر بالحصانة القانونية، وهي بالتالي أكثر عرضة للسؤال، والمساءلة.في ظني؛ أن الإسلوب التقليدي الذي يباشره ديوان المحاسبة في التدقيق على مسائل صغيرة ترد في تقرير الديوان، وبكلفة إدارية، ومالية قد تزيد في التقييم على مقدار الهدر البسيط لا يجوز أن يستمر هكذا. والأسلوب الحديث في الرقابة المالية يفترض أن يرافق إعداد الموازنات، وحساب الكلف، وإجراءات المزايدة، والمناقصة، وتقييم القيمة الفعلية للحاجة للإنفاق سواء أكان ذلك في النفقات الجارية، أو الرأسمالية، ومدى مواءمتها للكلفة المالية لتلك الخدمة، ومدى الحاجة لتلك الخدمة ذات الأثر المالي، أو الإداري، وضرورة أن يدرك المدقق المالي، أو الإداري مدى ومقدار الانحراف، أو الالتزام بالمعايير الدولية المعمول بها للتفرقة بين الفساد، والاجتهاد.لدينا حالة من غياب القادة الإداريين، وحالة انفلات، واستقواء على الدولة من بعض القوى، والافراد، واتهامية لا تليق للأشخاص في المواقع العامة، وارتباك، وقلق واضح للعيان من متخذ القرار الإداري يؤدي إلى الإحجام عن اتخاذ القرار المناسب، والركون إلى السلبية، والتسكين، وتأجيل اتخاذ القرار إلى ما لا نهاية، والركون إلى المستشار القانوني، وممثل ديوان المحاسبة في كل قرار مهما كان صغيراً، أو كبيراً، ومحاولة الامتناع عن الإمضاء من خلال التفويض، أو التأجيل، وكل هذه الممارسات المشينة تضعف الدولة، وتنهش من هيبتها، ووقارها، وتعبر عن حالة من النكوص عن التطوير، أو تقديم الخدمة العامة في وقتها.الحالة الوطنية في مستوى القيادات الإدارية وقدرتها على اتخاذ القرار في الوقت المناسب؛ ملتبسة، ومهترئة إلى درجات مؤلمة، ومؤسسات الرقابة المالية، والإدارية، ومكافحة الفساد ما تزال عاجزة عن قراءة التجارب الدولية الناجحة في هذا الشأن، والحزم لا يعني التخويف، والدقة، والشفافية لا تستوجب التقييد، وممارسة أساليب الإرهاب، والتخوين، والقائد الإداري الواثق من نفسه يمارس صلاحياته بشجاعة، وثقة، واقتدار، ويمارس الاجتهاد الواعي دون إفراط، أو تفريط، والحكومة القوية هي القادرة على لجم كل مظاهر المساس بمبادئ العدالة، والشفافية، والمساواة، وسيادة القانون؛ هي وحدها الكفيلة بمحاربة الفساد وحماية المال العام من كل عوامل الغطرسة، والاعتداء والهدر، والأهمال.بقي القول أن الجهاز الإداري وحتى بعض القائمين عليه في المستويات العليا بحاجة لإعادة تقييم لمدى قدرتهم على اتخاذ القرار في الوقت المناسب في ضوء القلق المتراكم من المؤسسات الرقابية، والرصد الشعبي الذي أضحى يمارس أدواراً تتجاوز الأفق الدستوري للمساءلة الشعبية، وأن إعادة النظر في الكثير من السياسات والإجراءات، وفي مقدمتها نظام التعيين في الوظائف العليا والذي أظن أنه لن يحقق الغاية منه، وحصافة الرأي في اختيار القيادات الإدارية، والسياسية لا تتطلب إجراءات كهذه لأن مجلس الوزراء هو صاحب الولاية العامة في إدارة شؤون الدولة، ويتحمل مسؤولياته السياسية، والدستورية أمام مجلس النواب الذي يمثل الإرادة الشعبية وفقاً لأحكام الدستور ..... !!!.الدكتور طلال طلب الشرفات
مشاركة :