التشابك، والاشتباك بين متطلبات الشفافية، ومقتضيات الردع دقيقة، وتحمل آثار خطيرة، فتصبح معه الموازنة بين فوائد الإعلان ومضاره قاصرة بدون نهوض عوامل الحكمة، والرصانة، واستحضار أولويات المصلحة الوطنية العليا التي تتجاوز الإنجازات الفرعية، واعتقد جازماً انه لا يضير هيىًة النزاهة ومكافحة الفساد ان تبحث وبهدوء في مجلسها الواعي الحكيم مزالق الإعلانات المتكررة عن إحالات للقضاء بطريقة تزرع اعتقادا راسخاً بان تلك القضايا كبيرة ومحكمة الدلاىًل مما يربك الفهم العام من جهة، ويشي بالاعتقاد بان الواقع الوطني في هذا الشأن خطير، ودون تقدير حجم الضرر الوطني في الإطار العام. وإذ كنا نطالب دوماً بالحزم في التعاطي ومعالجة قضايا الفساد، وممارسة اساليب التحقيق الإحترافي القائم على السريَّة والمبادرة، والمباغتة بعيداً عن مخاطر وسائل الإعلام التي تقود التحقيق إلى مآلات الرضوخ لرغبات الرأي العام المشبعة بالرغبة في الإنتقام المتولدة من حالة الإحباط العام تارة، وحالة إستهداف الموقع العام التي أضحت تهدد مرتكزات الثقة تارة أخرى.الحقيقة المرَّة التي نتجرعها منذ زمن بعيد أن المجتمع الشرقي ومن ضمنه المجتمع الأردني مجتمع إنطباعي، ومنظومة القيم السامية التي تشيع حالة التسامح، والتكافل، وحسن الظن، وعدم احتكار الحقيقة تآكلت إلى درجة كبيرة، والمعايير الدولية في حقوق الإنسان القائمة على محاكمة عادلة خالية من أي ضغوط سياسية، أو إجتماعية يلفظها الإعلان عن الأسماء والظروف التي أحاطت بوقائع القضية قبل صدور حكم مبرم باتٍّ، وقاطع،والعدالة البطيئة المتأخرة لا تحمي الأشخاص من عوامل اغتيال الشخصية، والممارسات التحقيقية وما يتبعها التي تمارس بعيداً عن صخب الإعلام وتحليلات النخب هي أكثر شفافية، ونضجاً، وقرباً من الحقيقة التي نبحث عنها جميعاً.عندما أتخلص من حمولة الحماس الزائد في الرغبة الجامحة لرؤية مجتمع، ووطن خالٍ من الفساد، أنحاز فوراً إلى مقتضيات العدالة الناجزة التي تتطلب الروية في الإعلان عن قضايا الفساد، وعلى الأخص الصغيرة منها، والمكررة منها، والرسائل السياسية التي ترغب الدولة، ومؤسساتها بتوجيهها لمن يهمه الأمر فتتقزم أمام عوامل التكرار، والإعلان لكل صغيرة، وكبيرة وتبعث رسائل خاطئة للمجتمع، والدول المانحة، والمستثمرين بأن الفساد يستشري في كل أركان الدولة وأن الأمل في الإصلاح يتلاشى، سيّما وأن الكثير من القضايا المعلن عنها هي قضايا صغيرة متكررة، وأن هناك قضايا تحقق بها النيابة العامة العادية مما أرسل إليها بشكل مباشر دون المرور بهيئة النزاهة ومكافحة الفساد أكبر حجماً ودون إعلان قد يفسد جدوى التحقيق بطريقة أو بإخرى.لا أريد أن يُفهمَ كلامي أنني ضد الحزم في مكافحة الفساد، ولكنني أدعو وبحكم التجربة أن الموازنة، والمواءمة بين متطلبات الإعلان، والمحاكمة من جهة، ومصلحة الدولة العليا في تجنب آثار الإعلان الضارّة بالاستثمار، وحساسية استجلاب المساعدات القائمة على احترام أصول المحاكمة العادلة، والشفافية في إدارة المال العام، والتجارب السابقة التي أضرت بالاقتصاد الوطني، بل أدعو وبرجاء إلى التحقيق الاحترافي في قضايا الفساد، وإحالة القضايا بعد استجماع الأدلة، والبيّنات لتكون الأحكام مواتية لمتطلبات الإحالة، وحتى لا تكون الإحالة عبئاً على العدالة، بل تكريساً لها.في الأصول القانونية، والمعايير الدولية لحقوق الأنسان لا يجوز الإعلان عن أسماء الأشخاص في القضايا الجزائية في أي مرحلة قبل صيرورة الأحكام قطعية، لأنه عندها "فقط" تصبح تلك الأحكام عنواناً للحقيقة، والمهابة التي ترافق عمل هيئة النزاهة ومكافحة الفساد تقتضي المحافظة عليها بالعمل الجاد الاحترافي الهادئ، ورفع سوّية المحققين وتغيير إسلوب عملهم بما يتلائم مع التجارب الدولية المميزة في هذا الإطار، وعندها فقط سنعيد للجمهور ثقته بالمؤسسات الرقابية، ونعيد لمنظومة القيم الوطنية مفاهيم التسامح، والواقعية، والشفافية في تقييم عمل الأشخاص والمواقع.وحفظ الله وطننا الحبيب...!!!
مشاركة :