مسألة الذكاء والعوامل المؤثرة فيه هي إحدى المسائل التي أثارت اهتمام الباحثين والمفكرين منذ القدم، وقد توافر اليوم عنها كثير من المعطيات بفضل ما توصل إليه البحث العلمي الحديث من تقدم، وقد بينت المعطيات العلمية التجريبية الحديثة وجود ارتباط بين الذكاء والجنس عند الإنسان، لكن هذا الارتباط لا يدل على «درجة الذكاء»، ولكنه يدل على «نوعية الذكاء»، حيث باتت النظريات العلمية الحديثة تنظر إلى الذكاء نظرة متعددة الزوايا، وتصنفه في أصناف عديدة، بعد أن كان سائداً حتى الأمس القريب اعتبار الذكاء واحداً وأحادي الصنف، وهذه النظرة ما زالت تحظى بأنصار لها حتى الآن. علمياً الغاية من هذه الأبحاث هي معرفية، وهدفها فهم طبيعة الذكاء عند الإنسان واختلافاتها بين الجنسين، وليست الغاية منها إثبات تفوق أي منهما على الآخر، وإن كان شيء من هذا القبيل ما يزال يثار على هوامش هذه الأبحاث حتى في المجتمعات المتقدمة، لكن مشكلة التفوق هذه ما تزال تحظى باهتمام كبير في المجتمعات التقليدية، حيث ما يزال الرجل يسعى لإثبات تفوقه على المرأة، فيما تسعى المرأة لإثبات نديتها له. وهذه المقالة تنظر بإيجاز في ما توصل إليه العلم الحديث في هذا الميدان. رجحت في الأوساط العلمية سابقاً فكرة عدم وجود فروق أساسية بين دماغي الرجل والمرأة، فالدماغ كان يعتبر مثل الرئة والمعدة والعين جهازاً غير جنسي، ما يعني أنه ليس هناك دماغ مذكر ودماغ مؤنث، وأن دماغي الرجل والمرأة متماثلان؛ وهذا يدعم فكرة المساواة بين الجنسين، التي أُقرت في المجتمعات الديمقراطية المتقدمة، واعتمد فيها مبدأ «التماثل والتبادل» الذي تعتبر المرأة بموجبه مماثلة للرجل وبديلًا مكافئاً له في كل المواقع. وكانت الاختلافات بين الجنسين في الذكاء والسيكولوجيا تعزى بشكل رئيس إما إلى تأثير الهرومونات الجنسية على عمل الدماغ، أو إلى تأثير الظروف الاجتماعية المحيطة، أو إلى فروق شخصية خاصة. لكن الاكتشافات الثورية التي أظهرتها الدراسات المعتمدة على السبر الإشعاعي ومعطيات علم الوراثة وعلم الأجنة منذ أواخر القرن الماضي حتى اليوم، غيرت بشكل جوهري نظرة العلم إلى الدماغ، وأثبتت وجود اختلافات جوهرية بين بنيتي دماغي الرجل والمرأة، ووجود ارتباط مباشر بين الدماغ والجنس، وأثبتت أن الدماغ لدى الجنين مثله مثل الأعضاء التناسلية، تلعب الهرمونات الجنسية دوراً أساسياً في تكوينه بخلاف بقية أعضاء الجسد(١). فقد بينت دراسة قامت بها جامعتا إيروين الكاليفورنية ونيومكسيكو الأمريكيتين، ويتحدث عنها مقال بعنوان «الذكاء في الرجال والنساء هو مسألة مادة رمادية ومادة بيضاء» منشور على موقع «ساينس ديلي» عام 2005، أن دماغ الرجل يحتوي من المادة الرمادية على 6.5 ضعف ما يحتويه دماغ المرأة، فيما يحتوي دماغ المرأة من المادة البيضاء على عشرة أضعاف ما يحتويه دماغ الرجل منها. فما تأثير هذا على عمل دماغيهما؟! أفادت بعض التجارب العملية بأنه في الدماغ تقوم المادة الرمادية بعملية «معالجة المعلومات» أما المادة البيضاء فدورها هو «نقل المعلومات»، وهذا يعني أن المادة الرمادية تلعب دور «المعالج» فيما تلعب المادة البيضاء دور «الناقل»، وخلاصته هي أن المادة الرمادية هي مركز النشاط العقلي الأساسي، وبالتالي فكلما كانت أكبر، صار النشاط العقلي أفضل، والكبر هنا مرتبط بالكمية والتركيب معاً، حيث إن هذه المادة تتركب من وحدات أصغر هي العصوبات، التي يعتبر كل منها وحدة معالجة صغيرة، وكلما زاد عددها زادت جودة عملية المعالجة، وارتفعت بالتالي درجة الذكاء. إذن أفلا يفترض في هذه الحالة أن يكون الرجل أذكى من المرأة بنسبة تقارب نسبة المادة الرمادية لديهما؟! هذا لم يثبت، فقد أظهرت اختبارات الذكاء (IQ) في تلك الدراسة وفي دراسات أخرى مشابهة تقارب مستويات الأداء الذكائي لدى الجنسين. إلا أن هذه الدراسات أكدت وجود فروق جلية في الأداء، حيث تبين وجود مجالات ينجح فيها الرجال وسطياً أكثر من النساء كالرياضيات، وبالعكس، فالنساء هن الأنجح في اللغات مثلًا، وعموماً ينجح الرجال أكثر في الأعمال الفردية القائمة على التركيز الذهني العالي، أما النساء فهن الأقدر على القيام بعدة أعمال متزامنة معاً. في كتابه «قصة دماغين» يشبّه مارك قنقر (Mark Gungor) عقل الرجل بالصندوق وعقل المرأة بالشبكة، فعند انشغال الرجل بأمر ما يوليه جل اهتمامه منصرفاً عن سواه، وكأنه دخل في صندوق خاص بهذا الأمر، أما المرأة فلديها القدرة على توزيع اهتمامها على عدة أعمال في الوقت نفسه، فهي مثلًا يمكنها القيام بشكل جيد بالطبخ ومتابعة التلفاز والمحادثة وغيرها في الوقت نفسه. وهكذا لا يعود ممكناً الحكم بأفضلية هذه الآلية أو تلك، فهذا مرتبط تماماً بنوعية العمل المراد إنجازه، فالرجل هو الأنسب في حالة العمل التركيزي، والمرأة هي النسب في حالة العمل المتعدد والمتزامن الجوانب. وبالطبع الحديث هنا يدور عن معدلات وسطية فقط، ولا يعني أن كل الرجال قادرون على التركيز وغير قادرين على الأداء التعددي، وأن النساء على العكس من ذلك، فهناك في الأداء المهاري نساء يشبهن الرجال أكثر، وبالمقابل رجال أقرب إلى النساء، وهناك من الجنسين من ينجح في نوعي المهارات كليهما. في المجتمعات المتقدمة هذه الدراسات لا تهدف إلى إثبات تفوّق أي من الجنسين على الآخر، فهي تجري لغايات علمية محضة. لكنها أحياناً قد تترافق ببعض الصدى الإعلامي، وتثير انتقادات ذات طابع اجتماعي، على غرار دراسة بريطانية حديثة نسبياً أفادت بأن نسبة الذكور رجحت في الوقت نفسه في الـ 2% الأكثر والأقل ذكاء من العينة المدروسة، وقد اعتبرتها بعض السيدات البارزات منحازة وذات خلفية ذكورية، مع أنه بناء على رجوح نسبة الذكور على كل من الطرفين النقيضين لا يمكن قطعاً الحكم بأن الرجل هو الأذكى أو العكس. فيما أثارت دراسة أخرى أفادت بأن الذكاء تتم وراثته من الأم حصرياً، جدلًا علمياً بين من يؤيدها ومن يعارضها. وعلى كل حال لا يمكن اليوم لأية دراسات أن تؤدي إلى أحكام نهائية عامة في موضوع الذكاء الجنسي، فمقياس الذكاء المستخدم في كل دراسة هو مقياس خاص بها، أو بنوع محدد من الذكاء تدرسه هي، فـ«مقياس الذكاء العام لا أساس له» كما يقول الدكتور جوزيف ديفلين(Joseph Devlin)، رئيس قسم علم النفس التجريبي في «يونيفيرسيتى كوليج» بلندن، والذكاء لم يعد مقروناً بالنجاح الدراسي، أو ببعض المجالات العلمية كما كان سائداً تقليدياً، وهو اليوم يعتبر متعدد الأنواع، فوفقاً لنظرية الذكاء التعددي، التي أسسها الدكتور هوارد غاردنر (Howard Gardner) من جامعة هارفارد، للذكاء (intelligence) سبعة أصناف هي: 1- المنطقي الرياضي (logical-mathematical). 2- اللغوي (linguistic). 3- الموسيقي (musical). 4- الفراغي أو المكاني (spatial). 5- الحركي (kinesthetic). 6- التواصلي (interpersonal). 7- الذاتي الداخلي (intrapersonal). أما نظرية الذكاء الثلاثي فتصنفه في ثلاثة أصناف هي: التحليلي(analytic)، الإبداعي (creative) والعملي (practical). وهذه النظريات مستخلصة من الواقع لتجاوز النظرة القاصرة الحاصرة للذكاء في أحد أنواعه وحسب، ولرؤيته والاعتراف به في أنواعه المتعددة، وهي اليوم تستخدم في قطاعات التربية، بهدف جعل التربية والتعليم عملية تعددية الأساليب مناسبة لجميع أنواع الذكاء المختلفة، وقادرة على تفعيل وتنمية قدرات الذكاء المختلفة عند المتعلمين المختلفين. البحث في أمور الدماغ وفي الفروقات والاختلافات الدماغية هو اليوم عملية متواصلة ومتنامية في الدول المتقدمة، وهي تأتي بنتائج تتفق أو تتكامل أو تختلف بل وتتناقض فيما بينها بين حين وآخر. لكن مسألة المفاضلة بين الجنسين قد حسمت هناك بشكل نهائي، وأقرت المساواة التامة بينهما بشكل لا رجعة فيه، وعلى معايير إنسانية وليس على أسس بيولوجية، فالمرأة في تلك المجتمعات تعتبر مساوية للرجل بإنسانيتها وعلى أساس إنسانيتها وحسب، سواء تشابهت معه أو اختلفت عنه في القدرات الدماغية أو سواها. وصارت الكفاءة الشخصية هي المعيار الذي يحدد دورها كفرد في المجتمع، وليس المعايير الجندرية المسبقة، وبالتالي فليس هناك من حيث المبدأ أية قيود أو حدود على دور ومشاركة النساء. أما في المجتمعات المتخلفة فقضايا التفوق الجنسي هي شغل شاغل، فالذكور المسيطرون لا يريدون التخلي عن سيطرتهم، ولذلك يسارعون إلى تفسير وتوظيف نتائج تلك الدراسات بشكل يخدم ذكوريتهم، ويقوّلونها ما لا تقوله، فيستنبطون منها إثباتات وأحكاماً مصطنعة عن تفوق الرجال على النساء. إلا أن العلم بريء من هذه الادعاءات التفوقية، وهو يقول بوجود فروقات بين الرجل والمرأة، ولكنه لا يحكم بتفوق أي منهما على الآخر، وفتوحاته تؤكد أكثر فأكثر التكامل بين الجنسين. --------------- (١) - عمر الشريف ونبيل كامل، المخ.. ذكر أم أنثى، ط2، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2011م، ص 34.
مشاركة :