فلسفيّاً، كانت فكرة الهويّة متعلّقة بتحقيق الأنا داخل العالم، أو لنقُل: متعلّقة بجعل الذات مفهومة داخل تعبيرات تتجاوز الزمان والمكان. لذا فهي مشكلة متعلّقة بأنطولوجيا الكائن. إنّ صيغة الكلام التي حدّدت هويّة الكائن منذ اليونان، أي إنّه "حيوانٌ ناطق"، كانت تعبيراً أنطولوجيّاً عن كينونة متمايزة عن كائناتٍ أخرى لا تتكلّم. بمعنى آخر، تأسّست الأنطولوجيا القديمة على "الكلام"، أي الإبانة عن النَّفس. ورغم التطوّرات الكثيرة في فكرة الهويّة، ولتعدديّة تعبيرات الإنسان نفسه عن هويّته داخل العالَم، وانتقال هذه الصيغ الهوياتيّة من صيغ أنطولوجيّة صرفة، إلى أخرى دينيّة، وسياسيّة، ومِليّة، وطائفيّة؛ فإنّ كلّ ذلك متعلّق، في نهاية المطاف، بكلام الإنسان عن نفسه: مَن يكون. وهكذا، تصبحُ الهويّة دائماً ترجمة في قلب الصّراع. إنّها وسيطٌ بين ذاتٍ تحتاج إلى أن تكون في العالَم، وشروط محيطة بها، كالثقافة والدين والسياسة والاجتماع. وكلامنا عن أنفسنا هو صياغة معقّدة لهذه الشّروط في أوجز قدر ممكن. ومن ثم، مَن يريدون انتزاع الهويّات لغرض متخيّل لأن يعيش الناس سالمين من كلامهم عن أنفسهم، ليسوا حالمين فحسب؛ بل إنّهم يريدون أن يصلحوا العالَم أولاً. ولم تنفجر الهويّات في عالمنا الحديث، فهي منفجرة دائماً. إنّ ما حصلَ أنّ العالَم الحديث وعدنا بعالَم ما بعد هويّاتيّ، تمثّله الدولة. لكنّ الدولة، التي سرقت الكلامَ وقنّنته في لغةٍ هوياتيّة تعبّر عن المجموع زوراً وبهتاناً، تحوّلت -أو هي كذلك بالأصل- إلى عُصبة هوياتيّة تختزلُ المجموع في هويّة واحدة، باسم أنّها محايدة ووسيط بين هويّات منفجرة ومتصدّعة. ففي إطار السياق الأوروبي، "كان التعصب الديني هو أساس المشاركة الشعبية لسلطة الدولة المركزية- لمصلحتها أو ضدها. وقد صعدت القومية عند دعوة الجماهير الغفيرة على المسرح السياسي أو إقحام أنفسهم فيه. ولكن لم تأتِ الدعوة على نحو ضمني من الكتب أو الإثراء أو الثقافة المدرسية؛ بل كانت نتاج الصراعات الطائفية والخطب والدعوات الساخطة والغاضبة، وكانت عاطفة الإيمان بمنزلة القاعدة واللبنة التي بُنيت عليها العواطف المؤيدة للدولة. ولذلك، نجد أن "شبحاً ينتاب أوروبا - شبح الشيوعية"، أما يعنينا هنا، فهو الطريقة التي تم بها ملء الفراغ الذي تركته الشيوعية والماركسية. ذلك أن الشبح الذي ينتاب أوروبا الآن هو شبح القومية حادة النبرة، وتأكيد الجماعات العرقية ذاتها، وإعلاء ما يقسم الناس على حساب ما يوحدهم. أضف إلى ذلك، التسرع في تفكيك الاقتصادات الشمولية قد أدى إلى اتساع هائل في دائرة عدم المساواة المادية، وإلى انهيار الخدمات العامة. أما في المنطقة العربية، فما يحدث الآن من حالة كبت هوياتي نتيجة للصراعات والنزاعات الدائرة في المنطقة، دفع بعض الدول، التي تشهد مراحل انتقال سياسي، إلى محاولة إعادة تأكيد ذاتها، والبحث عن هوية جديدة عبر آليات متعددة، مبنية على تصورات "نظرية وإجرائية" متعلقة ببناء الدولة وفي شكل نظامها السياسي، وبما يتناسب مع توجهاتها المستقبلية، وفي إطار ينسجم مع مواردها وإمكاناتها المتاحة، التي تقترب من هوية الذات، وهوية الدور، في مجالات السلوك السياسي والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي، ومدى ملائمته للسياقات التاريخية والبيئات الجغرافية، وفي ظل معطى "التاريخ والجغرافيا" من حيث "الثابت والمتغير". وهكذا، قد نجد بعض الدول العربية تسعى إلى إعادة النظر في شكل الدولة في إطار المحيط الدولي والإقليمي، والاتجاه بها نحو صيغ دولة اتحادية أو ملكية دستورية -أو ما شابه ذلك من صيغ توافقية- على شكل وهوية الدولة، والتي من المحتمل أن تكون نتاجاً لنموذجها السياسي، وبحسب واقعها أو إطارها الفلسفي، وفقاً لما تمت الإشارة إليه أعلاه أو بطريقة مغايرة له، بحيث تنسج مخيلة جديدة مبنية على فرضية، أنّ الحداثةَ هي إخراجُ المكبوت الهوياتيّ البَشريّ في شكل دولة، ولها قانون حدّد شكل التعبير عن النّفس. * للتأمل: "ما لا يُمكن تنظيره، ينبغي سرده". إمبرتو إيكو ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :