يعيش الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، واحدة من أسوأ لحظات حياته السياسية، على رغم أنه موجود في قمة هرم النظام الرئاسي الذي بناه بذاته. فنجمه الذي سطع في العالم العربي على وقع خطاباته النارية في شأن القدس وغزة، تحول تدريجياً إلى العكس، بعد أن أكتشف الجميع أن الرجل لا يهمه من كل ذلك، سوى سلطته ومصالح بلاده، وأن تدخلاته باسم دعم ما يسمى ثورات "الربيع العربي"، تحولت على الأرض إلى دعم للجماعات الإرهابية، ما أدى إلى نشر الفوضى وخلط الأوراق. لكن ما يؤرق أردوغان أكثر، ليس فقدان شعبيته في العالم العربي، بل ما يجري في بيته الداخلي هذه الأيام، من خسارات كبرى لحقت به في الانتخابات البلدية ولاسيما في جولة الإعادة لانتخابات إسطنبول، ومن ثم التفكك الجاري في حزبه الحاكم، إذ بدأ كبار قادة "العدالة والتنمية" السابقين والحاليين، يرفعون الصوت عالياً في وجهه بعد صمت طويل على ممارساته وسلوكياته، ويسعون إلى تأسيس أحزاب جديدة من رحم "العدالة والتنمية"، والأهم الأزمة الاقتصادية التي تهدد حكم أردوغان بالانهيار، في ظل انكشاف سياسة إدارة هذا الاقتصاد، من قبل قصره الأبيض والعائلة والصهر، وهذه جميعها، مؤشرات على أفول الأردوغانية ودخولها مرحلة الاحتضار السياسي. في الواقع، لا يمكن النظر إلى ما يجري في تركيا من زاوية اللحظة الراهنة، بل لا بد من قراءة شاملة تعيدنا إلى لحظة وصول حزب "العدالة والتنمية" إلى الحكم في عام 2002، وفق قواعد اللعبة الديموقراطية ومن خلال صناديق الاقتراع. وقتها، حرص الحزب على تقديم نفسه كحزب إصلاحي يلتزم بالأسس الديموقراطية والعلمانية التي قامت عليها الجمهورية التركية، لكن ما أن تمكن من تثبيت اقدامه في الحياة السياسية، حتى بدأ يحول خطواته التكتيكية إلى استراتيجيا للاستحواذ على الحكم، ليبدأ أردوغان بعد ذلك مرحلة تغيير النظام السياسي من الداخل عبر سلسلة خطوات متتالية، إذ نجح في وضع القضاء والتعليم والإعلام والاقتصاد والجيش تحت سيطرته، وكثيراً ما اتخذ هذا التغيير عنوانين متناقضين. الأول: الإصلاح الذي هدف بشكل أساسي إلى إعادة هيكلة الحكم والنظام السياسي وصولا إلى النظام الرئاسي. الثاني: الحرب ضد "الإرهاب" والتي كانت في حقيقة الأمر حرباً على كل من يعارض سياسة أردوغان، وهي حرب طالت الجميع، بدءاً من الأكراد، وصولاً إلى حليفه السابق فتح الله غولن، ومن ثم إلى مختلف أوساط المعارضة والمجتمع المدني. وقد بات هذا النهج علنياً بعد المحاولة الانقلابية العسكرية الفاشلة في صيف العام 2016، إذ تحولت تركيا بعد ذلك إلى دولة الرجل الواحد، الذي يحكم البلاد بعقلية السلطان. ثمة إجماع في الشارع التركي، على أن مرحلة ما بعد هزيمة حزب "العدالة والتنمية" في معركة إسطنبول، ليست كما ما قبلها، فللمرة الأولى يتعرض الحزب إلى مثل هذه الهزيمة القاسية. ولعل التداعيات الأولى لهذه الهزيمة، ظهرت داخل الحزب ذاته، إذ بات الأمر الأكثر ترقباً في الشارع التركي، تشكيل أحزاب جديدة من رحم حزب "العدالة والتنمية". واللافت في هذا الأمر، هو أن معظم الذين يجري الحديث عن نيتهم تشكيل أحزاب جديدة، هم أعضاء بارزون في "العدالة والتنمية"، ما يذكرنا ببداية تأسيس الحزب المذكور، إذ عندما قرر أردوغان ورفاقه تشكيل الحزب وهم أعضاء في "حزب الفضيلة" في عام 2001، ذهبوا إلى زعيم الحزب ومؤسس الإسلام السياسي في تركيا، الراحل نجم الدين أربكان، وأبلغوه نيتهم بتأسيس حزب جديد، فكان "العدالة والتنمية"، الذي طرح نفسه حزباً مجدداً معتدلاً. واليوم، يتكرر السيناريو ذاته، مع زيارة القيادي السابق علي باجاجان للرئيس أردوغان قبل فترة، وإبلاغه نيته بتأسيس حزب جديد، قبل أن يقدم استقالته من "العدالة والتنمية". وإلى جانب باباجان، يقف الرئيس السابق عبدالله غل، يقوم بدور المرشد في كل حركة وخطوة وتواصل مع الأوساط الحزبية الأخرى في البلاد. وفي موازاة جهود باباجان – غل، يبرز اسم رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، والذي يعد المنظر الفكري لآيديولوجيا حزب "العدالة والتنمية"، لتأسيس حزب جديد. واللافت أن أوغلو أكثر من يرفع الصوت في وجه أردوغان ويوجه انتقادات لاذعة له بعد أن كان أكثر الأشخاص منفذاً لسياسته، وصامتاً على ممارساته. يأتي ذلك وسط حديث عن انقسامات عمودية وأفقية في الحزب، فثمة من يرى أن أردوغان أفرغ الحزب من قادته وحوله إلى حزب الرجل الواحد، خاصة وأنها المرة الأولى التي يتسلم فيها الشخص ذاته منصب رئاسة الجمهورية إلى جانب رئاسة الحزب الحاكم. وهناك من يتحدث عن أن حزب "العدالة والتنمية" بات مجموعة من الكتل المنقسمة، تتحكم بها طبقة من رجال المال والأعمال المقربين من أردوغان وعائلته. مع جهود تأسيس أحزاب تركية جديدة، إلى جانب بروز نجم أكرم إمام أوغلو بعد فوزه برئاسة بلدية اسطنبول، تبدو تركيا أمام تغيرات سياسية من الداخل، ولاسيما إذ صحت الأحاديث عن أن نحو 100 نائب من "العدالة والتنمية"، سينضمون إلى الحزب الذي سيشكله باباجان، ومثل هذا الأمر سيؤدي من جهة إلى تشكيل كتلة برلمانية جديدة داخل البرلمان وإلى فقدان حزب "العدالة والتنمية" الأغلبية فيه، ومن جهة ثانية إلى إمكان الدعوة إلى استفتاء على التراجع عن النظام الرئاسي والعودة إلى النظام البرلماني وإن بصيغة جديدة، بل والدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، بما يعني إمكانية اختصار ولاية أردوغان الرئاسية. إلى جانب ما سبق، يبقى "حزب الشعوب الديموقراطي"، حزباً مؤثراً في الأوساط التركية والكردية، إذ يحظى زعيمه السابق المعتقل صلاح الدين ديميرتاش بشعبية كبيرة في الشارع التركي، ذلك أن المشهد السياسي التركي، يبدو أمام ثلاثي صاعد، مؤلف من: إمام أوغلو وباجاجان وديميرتاش. ولعل مثل هذا الثلاثي سيدفع بالمعارضة التركية المناهضة لأردوغان إلى مواقع المواجهة السياسية المباشرة، في ظل سياساته التي أدت إلى مزيد من الانقسامات في الداخل، وإلى خلافات مع الدول الحليفة ولاسيما الولايات المتحدة، بعد إصرار أردوغان على اتمام صفقة صواريخ "إس 400" مع روسيا، وإعلان واشنطن إخراج تركيا من مشروع إنتاج مقاتلات "إف 35" عقاباً له. في ظل انهيار الأردوغانية السياسية، ومخاطر تفاقم الأزمة الاقتصادية على وقع الخلافات الأميركية – التركية، تتجه الأنظار إلى أردوغان، وكيف سيتصرف في المرحلة المقبلة، وكيف سيواجه هذه التحديات ولاسيما الانشقاقات في صفوف حزبه؟ ثمة من يرى أن ليس أمام الأخير سوى القيام بإصلاحات حقيقية لاحتواء القادة الذين باتوا يغردون خارج سربه، لكن في حقيقة الأمر من يعرف شخصية أردوغان لا بد أن يستبعد مثل هذا الخيار، فهو اعتاد القول إن الذين يتركون سفينته "مصيرهم مزبلة التاريخ"! وعليه، يمكن القول إن الأردوغانية باتت تسير نحو نهايتها بفعل أردوغان ذاته، وطريقة تفكيره وممارسته للسلطة. *كاتب سوري
مشاركة :