هل شعرت يوما باسترجاع الذكريات والحنين إلى الماضي المنسي الجميل، هذا الشعور وهذا (الاطمئنان) الذي ينتابك بمشاهدة (البيوت القديمة) أو البيت العود بلغتنا المحلية أو بقراءة صحف قديمة أو البوم صور متنوعة من الماضي حيث تسرح بخيالك إلى زمن قد ذهب وأيام جميلة عشتها، ولم تعد! هذه اللحظات وهذا الشعور يسمى (نوستالجيا) وكمفهوم ممكن أن نقول هو حالة الحنين إلى الماضي أو (ذاكرة الزمن المنسي الجميل). وهي حالة (غريزية) طبيعية (أوتوماتيكية) تحدث في حالات الإحباط أو الحزن أو الملل أو السأم من الحياة فتحدث نوعا من الاسترخاء فترتفع (المعنويات) ويتحسن (المزاج) وترتفع طاقة الإنسان لتغطية (الديناميكية) ليتعامل مع ظروفه القاهرة الحالية فهي آلية دفاع من العقل، وهي من (الموارد النفسية) المفيدة، للحالات التي أشرنا إليها (سابقا) وهي من (الطرائق) الناجعة الوقتية لحالات الاكتئاب والضيق والوحدة والغربة وغيرها من (المهلكات النفسية)! وعلى هذا الأساس وعلى صلة بما نقوله، فقد صدر مؤخرًا للأستاذ الأديب الشاعر (يوسف حسن) – شاعر القرية – كتابه الموسوم (ذاكرة الزمن المنسي تأملات في حياة الإنسان والبيئة في قرى البحرين». والكاتب غني عن التعريف فهو من مواليد (قرية الديه) عام 1942 ويحمل ليسانس اللغة العربية وآدابها من جامعة بيروت العربية عام 1971م ودبلوما تجاريا من معهد بابكو للتدريب المهني عام 1961م. من مؤسسي أسرة الأدباء والكتاب عام 1969م ورئيسا لها للفترة من أعوام 1996- 1998م. وقد أسهم بمحاضراته وندواته وأمسياته الشعرية الأدبية محليا وخارجيا في تعميق الوعي والشعور الوطني وتنمية وتطوير الذوق الأدبي والفني، وتقوية الروح الوطنية والقومية والتذكير برابطة (العروبة). وقد مثل مملكة البحرين في كثير من (المشاركات) الأدبية وفي المؤتمرات الشعرية للكتاب والأدباء العرب منها في دمشق عام 1997 والقاهرة عام 2001م. ولإبداعه المتألق اختيرت بعض نصوص شعره مقررات في النصوص الأدبية لمادة اللغة العربية في مرحلتي التعليم الإعدادي والثانوي، كما ترجمت بعض أعماله إلى اللغات الإنجليزية والإيطالية والصينية. والكتاب سبح في آفاق الزمن الماضي تتداخل فيه مختلف وضروب (النثر الفني) من السرد والوصف والأحداث والسيرة الذاتية وقصص الآخرين كما احتوى الكتاب على نماذج أدبية وشعرية. في سنين خلت كانت مملكة البحرين جنة خضراء حيث أشجار النخيل المتكاثرة في أكثر مناطق البحرين وكذا البساتين المنتشرة في أكثر أرجاء البحرين ويرى في هذه البساتين أشجار اللوز والتين والكنار (النبق) وربما أشجار الموز، فقد شاهدت في طفولتي زراعة الموز. ونسترجع شريط الذكريات فنقول، إن شارع البديع مثلا كان في الأزمنة السابقة تتدلى على جوانبه غصون الاشجار المثمرة وسعف شجر النخيل، وكانت القرى تفصلها عن بعضها بعضا المساحات الخضراء. وعلاقة (الإنسان البحريني) بالنخلة قديمة وطويلة فقد عشقها، إذ كانت تمثل مصدر رزقه ورمزا للانتماء ومن هذا فإن أغلب (القرويين) يعملون بالزراعة والفلاحة ورعاية النخيل. وفي كتابه عرج كاتبنا إلى حكايات النخلة ووصفها وأسمائها وعلاقة الفلاح بها. والمتأمل في أسماء النخيل وثمرتها المختلفة الألوان والأنواع والنكهات، تتملكه الدهشة لهذا الكم الوفير من صنوف الرطب. فنجد (الخلاص) و(العزا) و(الخنيزي) و(خصبة العصفور) و(الخواجة) و(الشهل) و(الحلاو) و(مواجي) و(امبشر) و(برحي) وغيرها. ويسرد مؤلفنا قصة (التعليم الأهلي) في البحرين، فقد أسست (المدرسة العلوية المباركية) وتزامن ذلك مع تأسيس (المدرسة الجعفرية) وكانتا تحت إدارة ورعاية مستشار حكومة البحرين آنذاك السيد بليجريف وكانت المناهج آنذاك (حرة) باستثناء مواد اللغة العربية والحساب والجغرافيا والتاريخ التي تتبع مناهج مصر. في عام 1956م وقبله بسنة واحدة وفدت على مملكة البحرين البعثات التعليمية المختلفة من لبنان وسوريا وفلسطين والعراق وعليه كان نصيب المدرسة منها كبيرًا. كانت لبدايات التعليم المتقدمة في البحرين تأثير كبير في بدايات الوعي الثقافي والوطني البحريني. فبدأ رواج المجلات الثقافية لدى النخب الثقافية في تلك الفترة (العربي) الكويتية (والأديب) و(الآداب) البيروتية و(الهلال) وإصدارات دار القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد. لقد تأثر شاعرنا بما يسمى « شعراء النهضة العروبيون» بدوي الجبل وأحمد صافي النجفي ومحمد مهدي الجوهري وشعراء المهجر ايليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران. ومن شعراء التفعيلة البياتي ونازك الملائكة والسياب وغيرهم. ويعرج مؤلفنا إلى الدلالة التاريخية الكبيرة لبلادنا مملكة البحرين وإرثها الحضاري العظيم فقد عرفت منذ فجر الحضارات وما زالت إلى اليوم بريادتها في التحضر والارتقاء بالإنسان بل إن هذا التراكم الحضاري جعل مواطني هذه البقعة يألفون بفطرتهم السليمة (التعايش) و(التسامح) و(التكافل الاجتماعي) وينبذون (الكراهية) و(الخصام) و(الفرقة) وهم يجنحون بطبيعتهم للتآخي والسلام والعيش المشترك والأمن والاستقرار (راجع: يوسف من 2018). ويستطرد المؤلف ظاهرة انتشار حركة الوعي الوطني وذلك في ستينيات القرن الماضي بعد إنشاء جملة من مؤسسات (المجتمع المدني) آنذاك كالنادي الأدبي ونادي البحرين ونادي العروبة والنسور والأهلي. وقد عرفت قرى البحرين النوادي، فقد تأسس نادي جدحفص عام 1946م، تلاه نادي السنابس عام 1958م ثم نادي الديه عام 1964م على أيدي نخبة من الرعيل الأول لخريجي (المدرسة المباركة العلوية) والتي عرفت بعد ذلك بمدرسة الخميس الابتدائية. وقد عمل (القرويون) كما قلنا في الزراعة، وبعضهم امتهن (الحمالة) بكسر اللام كما هو وارد باللهجة المحلية ومفردها (حمال) بتشديد الميم وبما إن وسائل النقل في تلك الأزمنة غير متوافرة، فقد استخدمت (الجواري) ومفردها (الجاري) وهي (عربة) ذات عجلتين وتوضع على ظهر الحمار ليجرها أو تلك العربة التي يدفعها الرجل نفسه. والحق إن (الحمالين) كانوا (القوى البشرية) لنقل البضائع والسلع من (فرضة) – أي ميناء – المنامة أو المحرق. وكانت هذه الظاهرة منتشرة في القرى البحرينية ومن الطبيعي أن يكون هؤلاء عرضة للحوادث أو الأمراض كأمراض الظهر وانزلاقات العمود الفقري وغيرها. بظهور النفط اتجه (القرويون) إلى العمل (بالجبل) كما يسمى سابقا نسبة لجبل الدخان وشكل ذلك انعطافا كبيرا (للقرويين) في العمل الرسمي المنظم. وقد يضطر البعض للمشي مسافة يعبرون خلالها البساتين ليلا أو نهارًا للوصول إلى محطة توقف باصات نقل عمال بابكو. وهناك الكثير من القصص أو الطرائف لهؤلاء (العمال) لرؤيتهم لأشباح أو (جن) في البساتين وربما يخيل لهم من بعيد امرأة جالسة في الطريق، فإذا اقتربوا اتضح أنها (خيسة) – أي مجموعة من النخيل القصيرة المتراصة. وقد وقعت بمملكة البحرين خلال العقود الماضية الكثير من الحوادث أشهرها (سنة الطبعة) و(طبعة البلاد القديم) سنة 1949م، وذلك لسفينة قد غرقت حاملة الرجال والنساء والأطفال متجهة إلى جزيرة (النبيه صالح) لزيارة أحد المراقد الدينية. وقد وثق الحادثة الدكتور عبدالعزيز حمزة، في كتابه (طبعة البلاد القديم). ويخرج الأطفال في عيد الأضحى المبارك، ليرموا (الضحية) وهي عبارة عن اصيص صغير مصنوع من سعف النخيل يزرعه الأطفال بأي نبت شعير أو غيره، حتى يتكاثر ويكبر مع عيد الأضحى ثم يرمون (الضحية) في مشهد فلكلوري جميل في البحر أو العيون أو (الساب) وهو الجدول المتفرع من (العين). ويقع الكتاب في (285) صفحة من القطع المتوسط وقد قدم له كل من عبدالنبي العكري وعبدالنبي حسن يوسف، وجعفر الجمري. والكتاب إضافة ثقافية متميزة في حقل تدوين (التراث البحريني) وإنها لدعوة صادقة من المؤرخين والكتاب إلى تدوين تراثنا البحريني والإبحار في ذاكرة الزمن الماضي الجميل. S-HAIDER64@hotmail.com
مشاركة :