يعمل علماء أستراليون على صناعة لقاح قد يعطي للإنسان حماية أكثر ضد الأنفلونزا، وذلك في سبق طبي يعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، ما يمثل نقطة تحول مهمة في تاريخ اللقاحات التي يجري تداولها في الوقت الراهن، بل وقد يمثل سلاحا رئيسيا لمكافحة أي وباء للأنفلونزا قد يتفشى في المستقبل. ويحتاج حاليا المرضى وكبار السن إلى حقنات سنوية ضد الأنفلونزا، كما لم يتم التوصل بعد إلى حقنة ضد أنفلونزا الطيور. وتعمل الحقنات الحالية المضادة للأنفلونزا عبر إعطاء المناعة لمادتين من البروتين في الجسم؛ وهما هايماغلوتين ونيورامينديز، اللتين تتواجدان على سطح فيروس الأنفلونزا. غير أن هاتين المادتين في تغيير إحيائي دائم، ما يعني أن على الأطباء العمل باستمرار على صناعة لقاحات جديدة للحاق بها. وتصيب أوبئة الأنفلونزا الموسمية جميع الفئات العمرية وتؤثر فيها تأثيرا وخيما، لكن النساء الحوامل، والأطفال المتراوحة أعمارهم بين ستة أشهر وخمس سنين، والمسنين (أكبر من 65 سنة) والمصابين بحالات مرضية مزمنة مثل الأيدز والربو والأمراض القلبية أو الرئوية المزمنة، معرضون أكثر من غيرهم للمضاعفات والوفاة. وتتسبب الأوبئة في ارتفاع نسب الغيابات عن العمل والدراسة ما قد يحدث خسائر كبيرة في الإنتاجية. مجموعة الحقنات الحالية المضادة للأنفلونزا تعمل عبر إعطاء المناعة لمادتين من البروتين في الجسم وعلى الصعيد العالمي تشير التقديرات إلى أن عدد الإصابات بتلك الأوبئة يبلغ سنويا مليار حالة، منها حالات وخيمة يتراوح عددها بين 3 و5 ملايين حالة، تسفر عمّا بين 290 ألف و650 ألف حالة وفاة سببها أمراض الجهاز التنفسي. وتوصي منظمة الصحة العالمية بالتطعيم كأنجع السبل للوقاية من هذه الأوبئة، وخاصة بالنسبة للمعرضين بشدة لخطر الإصابة بالأنفلونزا ومضاعفاتها الصحية. وحذرت المنظمة من أن هناك حاجة ماسة إلى أدوات أفضل للوقاية من الوباء بما فيها لقاح أفضل، بعد أن ثبت أن اللقاح الذي استخدم خلال موسم 2017ـ2018 في المملكة المتحدة لم يكن فعالا سوى في 10 بالمئة بين الفئات العمرية الأكثر من 65 عاما وبمعدل 15 في المئة لجميع الفئات. وتحث المنظمة على المزيد من الاستثمار وزيادة البحوث والابتكارات في هذا المجال لتوفير لقاحات وعلاجات محسنة وناجعة بهدف إتاحتها لجميع البلدان في العالم وحماية الناس من هذا التهديد. واستجابة للتحديات بدأت الشركات الكبرى في العالم بالاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين عمليات البحث عن اللقاحات والأدوية الجديدة، وفي هذا الصدد تمكن فريق أسترالي مؤخرا من تصميم أول لقاح للأنفلونزا، يعتقد أنه أول دواء بشري في العالم يتم تصميمه بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي، ما قد يبشر بثورة قادمة في مجال تطوير اللقاحات والعقاقير. ووفقا للأخبار التي تداولتها وسائل الإعلام الأسترالية في الثاني من شهر يوليو 2019، تمكن علماء من جامعة فليندرز الأسترالية من تطوير لقاح مع مكون إضافي من شأنه أن يحفز جهاز المناعة البشري على إنتاج أجسام مضادة ضد فيروس الأنفلونزا، أكثر من اللقاح العادي مما يجعله بمثابة “الكأس المقدسة” التي لطالما بذلوا جهودهم من أجل العثور عليها لمعالجة الزكام. ويقول نيكولاي بيتروفسكي أستاذ الطب بجامعة فليندرز في أستراليا والمشرف الرئيسي على اللقاح، إنه على حد علمه، تعد هذه المرة الأولى التي يتم فيها تطوير لقاح ضد الأنفلونزا باستخدام الذكاء الاصطناعي، ويدخل مرحلة التجربة السريرية. ويضيف “إن استخدام الذكاء الاصطناعي سرع من عملية اكتشاف اللقاح، وخفض التكاليف بشكل كبير، ومكّن من تطوير لقاح أكثر فاعلية”. وتعد عملية اكتشاف الأدوية واللقاحات معقدة ومضنية وتستغرق وقتا طويلا جدا، وعادة ما تقوم الشركات الكبرى مثل شركة الأدوية البريطانية غلاكسو سميث كلاين، بفحص ملايين المركبات، حيث يعمل الآلاف من الأشخاص أسبوعيا على مدى عدة سنوات، ما يكلف الملايين من الدولارات للوصول إلى تقدم واحد وعلى النقيض من ذلك استغرق الفريق البحثي الصغير للأستاذ بيتروفسكي حوالي عامين لتطوير لقاح جديد بمساعدة الذكاء الاصطناعي، ومن المتوقع أن يدخل اللقاح إلى مرحلة التجارب السريرية في الولايات المتحدة في الأشهر المقبلة، ويجب أن تكون هناك سنة واحدة لجميع التجارب السريرية على الإنسان، وإذا ما تمت بنجاح، يمكن تسويق هذا اللقاح في غضون ثلاث سنوات. ووفقا للتجارب الأولية تتراوح فعالية اللقاح الجديد بين 80 بالمئة و90 بالمئة، مقابل 20 بالمئة و50 بالمئة في المتوسط للقاحات الأنفلونزا المعتادة، والتي لم تتجاوز 10 بالمئة في عام 2017 بسبب طفرة في الفيروس. ولتسريع عملية تطوير اللقاحات وجعلها أكثر كفاءة، ابتكر الباحثون الأستراليون برنامج كمبيوتر يدعى “سام”، حيث تقوم خوارزمية بتحليل بيانات لقاحات الأنفلونزا التي كانت أكثر فعالية في السنوات الأخيرة لتحديد أفضل المركبات. وفي هذا الشأن يقول بيتروفسكي الذي يشغل أيضا منصب مدير الأبحاث في شركة التكنولوجيا الحيوية الأسترالية فاكسين “كان علينا أن نعلم من برنامج الذكاء الاصطناعي على مجموعة من المركبات المعروفة بتفعيل نظام المناعة البشري، ومجموعة من المركبات التي لا تعمل، وستكون وظيفته أن يحدد بنفسه ما الذي يميز الدواء الذي يعمل عن غيره”. وطور الفريق برنامجا آخر أطلق عليه اسم “الكيميائي التخليقي” والذي أنتج تريليونات من مركبات كيميائية مختلفة، قام أفراده بتغذيتها لبرنامج “سام” لفحصها وتسليط الضوء على قائمة مختصرة للمركبات الأكثر كفاءة. وبعد ذلك قام الفريق البحثي بتركيب تلك القائمة في المختبر، وتم اختبارها على دم الإنسان، ثم خضعت لاختبار الحيوانات. وتسعى الدراسة التي يمولها المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في الولايات المتحدة إلى تجنيد حوالي 240 متطوعا وستختبر استجابتهم المناعية للقاح. ويقول بيتروفسكي “نعلم بالفعل من التجارب التي أجريت على الحيوانات أن اللقاح واق للغاية ضد الأنفلونزا، وهو يفوق اللقاحات الموجودة، والآن نحن بحاجة فقط إلى تأكيد ذلك لدى البشر”. ويؤكد بيتروفسكي على أن ميزة الذكاء الاصطناعي هي أنه لا يسرع العملية فحسب، ولكنه أيضا يجد المركبات الأكثر فعالية، وخلال 20 عاما سيتم استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل روتيني في تطوير الدواء.وتدعو هذه التجربة إلى التفاؤل لكون التقنيات الناشئة والمعتمدة على الذكاء الاصطناعي ستصحح مسار عملية اكتشاف الأدوية، وستجلب آفاقا جديدة غير متوقعة لهذا القطاع، الذي يشكو من تكاليف باهظة وبشكل متزايد في البحث والتطوير، إذ تتراوح تكلفة إدخال دواء جديد إلى السوق بين 161 مليون دولار و2 مليار دولار وفقا لدراسة أجريت عام 2014 برعاية وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية..ويمكن أن يكون لاستخدام الذكاء الاصطناعي في أبحاث اللقاحات تأثير مفيد جدا، وقد يوفر الجيل القادم من اللقاحات حماية ممتدة على مدى عدة مواسم ضد العديد من سلالات فيروس الأنفلونزا، على عكس ما يحدث حاليا، حيث يجب تجديد اللقاحات كل عام لتتكيف مع الفيروسات. والكثير من العلماء متحمسون للإمكانيات التي توفرها هذه التكنولوجيا الناشئة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بإيجاد علاجات جديدة للأمراض التي يصعب علاجها، ويزداد عدد شركات الأدوية التي شقت طريقها في هذا الاتجاه وشرعت في التحول إلى الذكاء الاصطناعي لتحسين عملية البحث عن الأدوية. ويرى الخبراء أن الذكاء الاصطناعي لن يعوض الكيميائيين، ولكن علماء الكيمياء الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي سيحلون مكان أولئك الذين لم يفعلوا. ومما لا شك فيه أن الذكاء الاصطناعي الذي لا يصاب بالملل، يملك قدرة تفوق قدرات البشر بمراحل على استيعاب كميات كبيرة من البيانات، وأنه في صورة ما تم تزويد الآلة بالكثير من البيانات وصياغة المشكلة بشكل صحيح، فلديها فرصة لالتقاط أنماط قد لا يتمكن البشر من التقاطها، وتقديم أفكار جديدة قد نحتاج إلى أزمنة من الجهود البشرية للوصول إليها. وبالتالي تنطوي هذه التقنية على إمكانات واسعة لتقليص الجداول الزمنية لاكتشاف الدواء، والأهم من ذلك هو أن اكتشاف العقاقير بسرعة وكفاءة يعني أن المرضى سيتمكنون من الوصول إلى الأدوية والعلاجات الجديدة بشكل أسرع وبتكلفة أقل. وإذا نجح هذا النهج الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة على النحو المنشود، فقد يمتد لاكتشاف العديد من العلاجات المختلفة التي يصعب علاجها كأمراض الدماغ ومرض ألزهايمر ومرض التوحد ومرض باركنسون. ولكن كفاءة الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي تصطدم بحقيقة كونها مرتبطة بجودة البيانات التي تتعلم منها الآلة، فإذا كانت البيانات معيبة فمن المحتمل أن تكون النتائج معيبة أيضا، لذلك تعد القدرة على التعرف على البيانات المعيبة وتصحيحها أو إزالتها أحد الاعتبارات الرئيسية لهذه الجهود وشرطا أساسيا مسبقا.
مشاركة :