أعلنت القيادة العسكرية الأميركية، أنّ التقارب المتزايد بين الصين وروسيا، يهدّد التوازن العسكري القائم لصالح الولايات المتحدة حتى الآن، لذا فإنّ القيادة الأميركية تتخذ إجراءات جديدة سواء في الانتشار أو في التدريب أو في التقدم التكنولوجي، للاحتفاظ بالميزات التي يملكها الجيش الأميركي كأقوى الجيوش في العالم! خلال الحرب الباردة، ازداد التفوق الأميركي في السبعينيات والثمانينيات، ولأنّ الصين آثرت عدم الاقتراب من الاتحاد السوفييتي، وبقيت على الحياد، فإنّ الاتحاد السوفييتي انهار في خضمّ سباق التسلح المفروض، وحرب أفغانستان، لكن ما يحدث الآن مختلف، فالولايات المتحدة أيام ترامب، ما عادت تميل للتحالف حتى في نطاق الأطلسي، وهذا فضلاً عن عدم الثبات مع حلفائها التقليديين، لذلك يصعد القطب الصيني وتنجذب إليه روسيا ودول وسط آسيا وأفريقيا. بيد أنّ الصراع يبقى اقتصادياً بالأساس، لكنّ إدارة ترامب لا تميز هنا بين العسكري والاقتصادي، فهي لا تتصارع مع الصين فقط، بل مع دول الاتحاد الأوروبي أيضاً، ولو بقيت أوروبا موحدةً لأمكنها لعب الدور المرجِّح في الصراع بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وروسيا من جهةٍ أُخرى، لكنّ أوروبا ما عادت موحَّدة داخلياً، فالبريطانيون يريدون الخروج بأي ثمن من الاتحاد، وفي هنغاريا وبولندا وإيطاليا هناك حكومات يمينية لا تتعاون كثيراً مع ألمانيا وفرنسا، سواء في السياسات الاقتصادية أو في ملف الهجرة.. ولذا فالحديث عن سياسات منسَّقة للأوروبيين في المدى المتوسط يصبح من الأَوهام. تملك الشعبويات ميلين متناقضين: الميل للاستيلاء بالداخل، والميل للانكفاء وإقامة الحواجز في السياسات الخارجية، وهذا الأمر يدركه الصينيون، لذا فهم يسلكون مسلك الولايات المتحدة عندما كانت قوةً صاعدةً في الخمسينيات، بعد الحرب الثانية كانت استراتيجية الأميركيين التحالفات والامتدادات، ومصارعة الاتحاد السوفييتي على امتداد العالم، وبخاصةٍ في أوروبا، لذا اتجه السوفييت للامتداد في آسيا وأفريقيا، ويحدث العكس الآن: ينكمش الأميركيون ويتمدد الصينيون في أفريقيا وآسيا. كان الأميركيون يعطون ويأخذون، وهم الآن يريدون أن يأخذوا أو ينكمشوا، ولا يقبلون أن يستغلَّ الآخرون كرمهم المعهود، أما الصين فتقترح على العالم استراتيجية جديدة تعتمد الاستيعاب وليس الهيمنة (كما يقولون)، وهي الاستراتيجية التي صارت تُعرف باستراتيجية الحزام والطريق، والطريق هي طريق الحرير القديمة في البر والبحر عبر المحيط الهادئ وبحر الصين والمحيط الهندي، أما الحزام فهو الإطار الشامل الذي يحيط بالطريق البري البحري، ويستوعب الجميع باستثناء الأوروبيين والأميركيين! وهناك ثلاث نواحٍ (بالإضافة إلى أوروبا) لم تحسم أمرها بعد: الهند وإيران ودول الجزيرة العربية، أما دول الهلال الخصيب (وكانت تُعرف بالمشرق العربي)، فتحولت إلى مناطق نفوذ للجهات الإقليمية والدولية، ولنعد للهند، فالخصم الرئيسي لها هو الصين، رغم كل محاولات التفاوض والتهدئة، وكانت تميل تقليدياً للاتحاد السوفييتي ثم للولايات المتحدة، والآن تريد الدخول في التعددية القطبية، وإيران عميقة الميول للمعسكر الغربي، لكنها محكومةٌ بالصراع مع الولايات المتحدة باستثناء أيام أوباما، لذلك فهي تجد نفسها مع روسيا والصين، وتحاول دول مجلس التعاون أن تكون على مسافةٍ واحدةٍ من الأقطاب، لكنّ مصالحها ما تزال مع الولايات المتحدة. لقد أحدثت شعبوية ترامب المتوجهة للداخل الأميركي، اضطراباً في النظام العالمي الذي قام بعد الحرب الثانية، وهو اضطرابٌ ما كان سببه الوحيد سياسات ترامب الجديدة، بل ظهور الشعبويات القومية وشبه القومية، وميلها للتركيز على الداخل المحلي والوطني، وإعراضها عن التعاون لأنه مكلفٌ في المدى القصير، ولأنّ مشكلات المناخ، ومشكلات العالم النقدية والاقتصادية تتفاقم، ويزداد تضارُبُ المصالح، فإنّ المنتديات الدولية تحولت إلى بيئات تضارُب وتجاذب وصراع، وما عاد ممكناً التوافق على حلول تعاونية للمشكلات العالمية، وسواء في ذلك مشكلات الأمن، ومشكلات الإرهاب، والمشكلات الاقتصادية، ومشكلات المناخ. ما عاد هناك «ملتزمون كبار» للنظام العالمي، وبرتران بادي الذي يكتب تقريراً سنوياً عن الأوضاع العالمية، يقول إنّ العالم لا يتجه نحو تعددية قطبية، بل إلى عالمٍ من دون أقطاب!
مشاركة :