بعد فيلم “حياة خفية” للمخرج تيرنس ماليك (سبق الحديث عنه في “العرب”، العدد 11377 بتاريخ 14/06/2019)، والذي يستوحي من الموروث الديني في سياق فلسفي، فكرة التضحية بالمفهوم المسيحي والتمسك بالصواب حتى لو خالف المرء الناس جميعا، يأتينا فيلمان جديدان عرضا مؤخرا، لا شك في وجود وشائج تربط بينهما، فالبطل في كليهما، شاب مشتعل بالحماس وحب الحياة، متمرد عنيف، حاد الطباع، لديه “مهمة” أو هدف يسعى من أجل تحقيقه، لكن الأحداث في مسار حياة كل منهما، تتخذ فجأة مسارا آخر مختلفا، وتخلق أمام “البطل/ اللابطل” تحديا كبيرا، لكن عودته للإيمان، وهو المتشكك العدمي، سيمكنه من تجاوز أزمته التي تهدّد حياته ليعود إلى الحياة أكثر أملا وثقة في النفس. لعبة اليقين الفيلم الأول، هو “100 ياردة” (Yards 100) للمخرج روس كامبل. وهو من بطولة الممثل ستيفن برويز الذي يقوم بدور “ريتش بورتر”، الطالب الجامعي المتفوّق في لعبة كرة القدم الأميركية والمرشح للانضمام إلى صفوف منتخب بلاده، لكنه يترك كل شيء ويذهب إلى الفلبين لكي يبحث عن أمه التي أصبحت في عداد المفقودين بعد وقوع التسونامي. تبرز هنا أولا فكرة التضحية بالنجاح والتفوق الرياضي من أجل التمسك بالأسرة. فبطلنا هذا يشعر أيضا بالذنب، وبأنه كان السبب في وفاة شقيقه الأصغر الذي كان يجلس بجواره عندما انشغل عنه، ممّا أدى إلى وقوع حادث سيارة. وبعد الحادث اتجهت والدته إلى أعمال الخير، ثم ذهبت إلى الفلبين لكي تساعد البؤساء والمحرومين من خلال جمعية تابعة للكنيسة. يرتبط ريتش بفريق في المدينة الفلبينية لكرة القدم، ويصبح مقربا من مدير الفريق جوش، وهو رجل مثالي متمسك بالدين، يصبح بمثابة الأب البديل له، يدعمه ويساعده ويقف معه في كل الظروف. كما يرتبط ريتش عاطفيا بفتاة فلبينية، هي تيس سرعان ما يكتشف أنها تستغله لحساب راي غريمه منذ الصغر والمراسل الصحافي الذي يسعى حاليا للحصول على معلومات من الفتاة عن ريتش، تصلح لنشر قصة مثيرة يجني من ورائها بعض المال وتقضي على سمعة ريتش. البطل ريتش في فيلم "100 ياردة" يكاد يكون عدميا، فهو ساخط على كل شيء لا يثق في أحد، يستعين بالخمر للهرب من أزمته الوجودية ريتش يكاد يكون عدميا، فهو ساخط على كل شيء لا يثق في أحد، يرفض النصائح، يستعين بالخمر للهرب من أزمته الوجودية، ويشعر أن حياته بلا معنى، ويبدو حتى يائسا من العثور على أمه الغائبة، لكنه يواصل البحث. وسيأتي التحوّل المفاجئ في الحبكة عندما يكتشف ريتش أنه مصاب بورم سرطاني في المخ يتطلب إجراء عملية جراحية عاجلة ثم علاج كيميائي. الحالة شبه ميؤوس منها، وهو يقيم في غرفة بالمستشفى برفقة صبي فلبيني، هو داريل من المعجبين به كثيرا ولكنه مصاب بنفس المرض، يعلمه داريل لعبة الـ”100 ياردة” التي تمنح الأمل في الحياة، كما يتعرف على الممرضة الحسناء بريتاني التي تميل إليه، لكنها تخفي سرا يعذبها. هذا التضامن الإنساني بين كل من جوش وداريل وبريتاني، سيكتمل بنبذ الشك وبلوغ اليقين الديني، ولعبة الـ”100 ياردة” هي التي تساعد على ذلك، وعندها لا يعود هناك مكان لليأس. في البداية يستعرض الفيلم شخصياته بتركيز خاص على شخصية ريتش، في فوضويته وعنفه وميله إلى التشاجر والسباب وتشكّكه الديني، بل وحتى بعد أن يكتشف مرضه ويدخل المستشفى يرفض الإقامة مع طفل في غرفة واحدة، لكنه تدريجيا سيدرك أن الصحبة الجديدة هي أسرته البديلة، وأن ما يضيف إلى الحياة ويضفي عليها معنى هو بلوغ اليقين المسيحي. وبفضل ذلك التحوّل سيتحقّق الشفاء.. المعجزة! روحانيات وتطهيرالفيلم الثاني هو”مشروع هامنغبيرد” (The Hummingbird Project) وهو من إنتاج أميركي، ومن إخراج المخرج الكندي كيم نيغوين. فكرة الفيلم جديدة دون شك، وهو يبدأ بالكوميديا المجنونة العبثية ليصل إلى المأساة في سياق الميلودراما قبل أن تنتهي اللحظة المأساوية بفضل اليقين الديني. أمامنا شابان أولهما هو فنسنت (جيسي أيزنبرغ)، وهو مدير ناجح للترويج والمبيعات في مجال تكنولوجيا الاتصالات الرقمية الجديدة التي ما زلنا لم نكتشف بعد كل أسرارها وقدراتها، والثاني ابن عمه أنطون (الممثل السويدي ألكسندر سكارسكارد) وهو مهندس متخصص في التكنولوجيا الرقمية ويمكن القول إنه عبقري بمعنى الكلمة، لكن بينما يبدو الأول مشتعلا بالحماس والرغبة في الصعود السريع ويمتلك القدرة على تنفيذ مشاريع عملاقة شديدة الطموح يتحدث ويتحرك بسرعة، يبدو الثاني منطويا على نفسه، خجولا متلعثما. صحيح أنه متزوج من امرأة حسناء هي ماشا (سارة غولدبرغ)، لكنه جبان مثلا يخشى ركوب الطائرات، يميل إلى التفكير في حل المعضلات الرقمية، وسيتعين عليه قريبا جدا أن يواجه تحديا لعبقريته. الاثنان يعملان في شركة تقع بنيويورك تملكها السيدة إيفا (سلمى حايك)، وهي سيدة متجبرة مستبدة، تسخر الاثنين في خدمة طموحاتها التي لا تعرف نهاية. لكن فنسنت يريد أن يستقل عنها وأن يقوم بتنفيذ مشروعه الشخصي الطموح، وهو بناء خط من حزم الألياف التي تنقل الإشارات الرقمية تحت الأرض على مسافة 1600 كيلومتر، يصل بين كنساس ونيوجيرسي، والهدف هو السيطرة على الأوامر التي تخرج من أجهزة الكمبيوتر وتتوجه إلى البورصة قبل أن تصل بالفعل إلى هدفها ولو بثوانٍ معدودة، وبالتالي تتاح له الفرصة للمضاربة والشراء والبيع وتحقيق عشرات الملايين من الدولارات يوميا. وقد اتفق فنسنت بالفعل مع مموّل كبير أغراه بالمكسب الكبير، لتمويل إنشاء هذا الخط الذي سيمر بسلسلة من الجبال والبحيرات. هذا السعي المحموم لإنجاز المشروع يواجه بالطبع برد فعل عنيف من قبل إيفا التي تدرك أن هذا المشروع يمكن أن يقضي عليها عمليا في السوق، فتلجأ إلى التهديد والوعيد، بل والوشاية بالحلقة الأضعف في المشروع، أي بالمسكين أنطون الذي يخاف من خياله، فهي تشي به للمباحث الفيدرالية بدعوى أنه سرق شيفرات سرية خاصة تتعلق بالشركة ممّا يؤدي إلى اعتقاله، لكنه سيخرج ويتوصّل بعد جهد إلى حل لمعضلة سرعة الإشارات الصادرة بين مركزي الخط. وفي الفيلم بالطبع الكثير من التفاصيل الدقيقة التي تستند إلى أسس علمية حديثة رغم أن الأحداث تدور في 2012. ولكن هذا السعي المحموم نحو تحقيق السيطرة والاستحواذ والمكسب المالي عن طريق الاحتيال (تماما كما يحدث في وول ستريت)، يتوقف عندما يكتشف فنسنت أن حياته معلقة بشعرة، وأنه مريض بسرطان في الدماغ (مثل بطل فيلم “100 ياردة” بالضبط). وخلال سعيه المحموم لتنفيذ مشروعه على الأرض وبعد التعاقد مع مهندس محترف هو مارك (مارك فيدا في دور يتماثل تماما معه)، يصل فنسنت إلى قطعة أرض شيّدت فوقها كنيسة وممتلكات تابعة لها يديرها رجل متطوّع مع مجموعة من أقرانه المتطوّعين من أجل “خدمة الرب”. هذا الرجل يرفض السماح لفنسنت وعمّاله بمد الكابلات تحت قطعة الأرض الخاصة بالكنيسة، فهم لا يريدون أي علاقة بالعالم الخارجي الحديث الذي يرون أنه يخالف النقاء المسيحي ويغضب الرب، ويرفضون بالتالي ملايين الدولارات مقابل مد خط “لن يراه أحد” تحت الأرض، كمسألة مبدأ. هذا الرجل المثالي الذي يصطدم به فنسنت هو من سيلقنه درسا في الاستقامة والحب عندما يأويه بعد أن يشعر باقتراب نهايته مع اشتداد المرض عليه. ولكن هل سينتهي فنسنت إلى الموت، أو سينتهي مشروعه بالأحرى إلى الهجر والنسيان؟مشكلة الفيلم أنه يفقد التدفق الطبيعي بسبب هذا الانتقال بين الإيقاع السريع المرتبط بالفكرة المثيرة التي يتعين تنفيذها بشتى الطرق في ظروف جوية متقلبة وبيئات طبيعية مختلفة، وهو ما كان يشير إلى احتمال وقوع مواجهات من نوع آخر تكشف وتعري آلية الجشع، لكن الاتجاه إلى الروحانية والتطهير في الثلث الأخير من الفيلم يخل بالإيقاع ويدخله في دائرة الميلودراما التي تستدعي الشفقة على البطل الذي يعجز رغما عنه، عن تحقيق حلمه المجنون. هنا لا يصبح معنى للطموح إذا كانت حياة المرء مهدّدة بالخطر، فيجب أن يدرك أن الحياة قصيرة، وأن هناك من حوله من هو أكثر جدارة بالاستيلاء على اهتمامه من تحقيق الثراء. أفضل ما في الفيلم هو تصويره للعلاقة المتينة التي تربط بين فنسنت وأنطون ابن عمه، رغم تناقضهما، فعلى الرغم من أن فنسنت هو الأصغر سنا إلّا أنه يلعب دور الأب المسؤول عن ابن عمه، يقف معه، ويسعى لتقديم التنازلات له ويدعمه ولو كلفه الأمر التضحية بكل ما يملك، بل وبحياته نفسها إذا لزم الأمر. ولا شك أن العلاقة بينهما مرسومة جيدا، بحيث يمكن القول إن الفيلم هو فيلم عن الصداقة والصحبة والشعور الإنساني بالانتماء بقدر ما يتطرق إلى النهم للتحقّق الذاتي ولو من خلال عمل غير مشروع لا يكتمل في هذه الحالة.. لحسن الحظ! ولكونه فيلم شخصيات أساسا، فهو -شأن الفيلم السابق- يتميز بالأداء التمثيلي البارز من جانب فريق الممثلين جميعا، رغم بعض المبالغة من جانب الممثل جيسي أيزنبرغ في الجزء الأول من الفيلم، لكن قدرته على الأداء الصوتي باستخدام الحوار العبقري المكتوب ببراعة، والتلوّن مع كل مشهد، تظل محل إعجابنا.
مشاركة :