إنه موسم الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط. هجرة ثمنها الحياة، ودافعها الشعور باليأس، ومحفزها التوترات الأمنية العاصفة. وفي هذا الظرف، بدت إيطاليا وقد تصدرت وجهة العابرين على قوارب الموت، منتزعة مواقع إسبانيا ومالطا واليونان. في 15 تشرين الأول أكتوبر 2013، بدأت القوات الإيطالية تعزيز وجودها البحري في المياه الإقليمية بين ايطاليا وتونس وليبيا. وأنقذت في اليوم ذاته نحو 300 مهاجراً عصفت الأمواج بقاربهم، في مكان بين جزيرة صقلية وليبيا. وقبل يوم على ذلك، جرى الكشف في روما عن خطة بحرية، تم فيها تحديد ثلاثة مستويات عمل لمواجهة تدفق الهجرة غير المشروعة. وهي "تعزيز التعاون الدولي بهدف القيام بكل ما يلزم لكي لا يغادر المهاجرون بلادهم، وتحسين الرقابة على الحدود التي هي حدود أوروبية قبل أن تكون ايطالية، ونشر نظام الاستقبال الحالي". ما يُمكن قوله خلاصة، في سياق هذا التفصيل، هو أن المجتمع الدولي معني بالتصدي المسؤول والحازم للأسباب والعوامل، التي تجعل من الأوطان طاردة لأبنائها، فالهجرة نحو المجهول ليست قدراً على أي إنسان ونشرت إيطاليا حتى الآن 12 سفينة لجهاز حرس السواحل، والشرطة المالية، التي تنشط في شعاع يقارب الأربعين ميلاً (حوالي 75 كيلومتراً) حول جزيرة لامبيدوزا، التي تشكل أهم مدخل إلى أوروبا بالنسبة إلى المهاجرين القادمين من أفريقيا. وتقع هذه الجزيرة جنوب غربي صقلية، على مسافة 113 كيلومتراً فقط من تونس. واستناداً إلى الخطة البحرية الجديدة، سيتم استخدام سفينة برمائية للمرة الأولى، في حين ستزداد قدرات استضافة اللاجئين واستقبالهم. وسيتم كذلك نشر أربع قطع بحرية عسكرية، هي سفينتا دورية وفرقاطتان، تنشط خارج الشعاع الممتد لأربعين ميلاً، إلى جانب الإجراءات المعمول بها حالياً. كذلك، سيجري استخدام عدة مروحيات، مجهزة بأدوات بصرية وبالأشعة تحت الحمراء، تسمح بمراقبة البحر بما في ذلك ليلاً، إضافة إلى طائرات من دون طيار. وقد جرى تبني هذه الخطة على إثر غرق سفينة مهاجرين في الثالث من تشرين الأول أكتوبر 2013، قرب جزير لامبيدوزا، في حادث تسبب في بقتل 364 مهاجراً، بينهم نساء وأطفال. وقد انطلقت هذه السفينة من ليبيا، وعلى متنها حوالي 500 مهاجر، غالبيتهم من الصوماليين والاريتريين والماليين. وأعلن رئيس الوزراء الايطالي، انريكو ليتا، أن ضحايا السفينة سيحصلون على الجنسية الايطالية بعد وفاتهم، متحدثا عن "العار"، ومطالبا الاتحاد الأوروبي ب"زيادة مستوى التدخل". وقد أعقب هذه الحادثة، غرق سفينة ثانية قرب مالطا، في الحادي عشر من الشهر ذاته، أسفر عن 36 قتيلاً، كحد أدنى. ووفقاً لشبكة منظمات غير حكومية في باريس، فإن 17 ألف مهاجر قضوا على مدى عشرين عاماً، فيما كانوا يحاولون بلوغ أوروبا. ووصل أكثر من 22 ألف مهاجر إلى سواحل جنوب ايطاليا منذ بداية العام 2013، بارتفاع قدره حوالي ثلاثة أضعاف عن مجمل العام الماضي. وقد طالبت إيطاليا بتعزيز دور الوكالة الأوروبية المكلفة مراقبة الحدود (فرونتكس)، وتعيين إيطالي على رأس هذه الوكالة في العام 2014. وتشكو إيطاليا، على غرار اليونان ومالطا وقبرص، من عدم تضامن شركائها الأوروبيين. والقاعدة المطبقة هي أن يتحمل أول بلد يصل إليه المهاجر مسؤولية منحه اللجوء واستضافته. وهذا النظام الذي تنتقده دول جنوب الاتحاد الأوروبي لم يتم تطويره منذ أن طبق للمرة الأولى في العام 2002. ويستعد الاتحاد الأوروبي حالياً لإطلاق نظام جديد، يلحظ على وجه الخصوص رصد ومساعدة السفن التي تقل مهاجرين معرضين للخطر. وقد رفض رؤساء وزراء ألمانيا والسويد والدنمرك فكرة تعديل اتفاق دبلن، الذي يفرض على دول الوصول معالجة طلبات اللجوء، وتأمين إيواء مقدميها. وعارضت 24 دولة، من أصل 28، تخفيف القواعد الخاصة بالهجرة عندما جرت مناقشة هذا الأمر. ويعود ذلك جزئياً إلى تصاعد الحركات الشعبوية والمناهضة للوحدة الأوروبية. وتعتبر كل من إيطاليا ومالطا واليونان وقبرص وبلغاريا وإسبانيا منافذ دخول للمهاجرين من أفريقيا والشرق الأوسط إلى الاتحاد الأوروبي، عبر تركيا ومصر وليبيا وتونس. من ناحيتها، أعلنت المفوضة الأوروبية المكلفة بالشؤون الداخلية، سيسيليا مالمستروم، إنها ستقترح على الدول الأعضاء تنظيم عملية واسعة للأمن والإنقاذ في البحر الأبيض المتوسط، من قبرص إلى إسبانيا، ستنفذها وكالة فرونتكس. وقالت مالمستروم: سأطلب الدعم، والموارد اللازمة لتحقيق ذلك، من أجل إنقاذ حياة مزيد من الناس. والدول الأعضاء في فرونتكس مدعوة إلى تزويد هذه الوكالة بسفن وطائرات وأموال، لانجاز مهمة مراقبة الحدود. وهذه الوكالة، التي ساهمت في إنقاذ آلاف الأرواح في العامين الماضيين، ليست لديها أي وسائل خاصة، وخفضت موازنتها، جراء التقشف الناجم عن الأزمة المالية، من 118 مليون يورو عام 2011 إلى 85 مليوناً في السنة الحالية. وفي تصريح يعكس حالة التشاؤم السائدة حيال التحرك الأوروبي، قال رئيس وزراء مالطا جوزيف موسكات: "واقع الأمر إننا، مع استمرار الوضع الراهن، إنما نبني مقبرة في بحرنا المتوسط". ورأى موسكات أنه لن يحدث أي تقدم حقيقي إلى أن يعود النظام على طول الساحل الأفريقي. و"حتى يتحقق حل دائم، أو على الأقل طريقة أفضل للتعامل مع مشكلة الهجرة غير الشرعية، لا بد من الاستقرار في ليبيا". وهناك الكثير في أوروبا ممن يرون أن الحل يكمن في مراقبة سواحل ليبيا وتونس، من قبل سلطات البلدين، من أجل منع إبحار مراكب الهجرة غير الشرعية. ومع أكثر من أربعة آلاف كيلومتر من الحدود البرية مع ست دول، وأكثر من 1700 كيلومتر من الحدود البحرية، تطلب ليبيا باستمرار مساعدة الدول الغربية لمواجهة الهجرة غير الشرعية، التي تزيد من تعقيداتها سلطة الأمر الواقع، التي تفرضها المجموعات المسلحة غير الرسمية على أوجه الحياة العامة في البلاد. وقد أعلنت باربارا موليناريو، المتحدثة باسم المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، إن الناجين من حادث الغرق، الذي وقع قرب مالطا في 11 تشرين الأول أكتوبر 2013، ذكروا أن زورقهم تعرض لإطلاق نار لدى مغادرتهم ليبيا، مما أدى إلى إصابة ثلاثة أشخاص وإلحاق أضرار بالزورق. ويعتقد أن جماعة مسلحة ليبية هي من أطلق النار. في مسار آخر من حركة الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، يواصل العديد من المهاجرين القادمين من القارة الأفريقية اختبار فرصة الدخول إلى اسبانيا براً، أو بحراً على متن زوارق قديمة. وفي الخامس من تشرين الأول أكتوبر 2013، وصل أحد هذه الزوارق الصغيرة إلى ساحل جنوب إسبانيا، في منطقة غرناطة، بعدما عبر أكثر من 170 كيلومتراً عبر المتوسط، انطلاقاً من شمال المغرب، وكان جميع ركابه مغاربة. وفي 16 أيلول سبتمبر من العام ذاته، أنقذت البحرية الاسبانية نحو 200 مهاجراً، جرفت المياه مركبهم. وفي نيسان أبريل، قضى 11 شخصاً، بينهم ثلاث نساء وطفلان، في حادث غرق قبالة السواحل الإسبانية. ولوحظ أن منطقة طريفة قد شهدت هذا العام العدد الأكبر من عمليات إنقاذ المهاجرين. وتبعد هذه المدينة، الواقعة جنوب إسبانيا، نحو عشرين كيلومتراً عن السواحل الأفريقية. وقد انتقل تدفق الهجرة في هذا الاتجاه بعد أن تركز طيلة سنوات العقد الماضي نحو أرخبيل الكناري غرب المغرب. وتراجع عدد الأشخاص الذين تم إسعافهم على متن زوارق قديمة، في كافة منافذ إسبانيا، بنسبة 18% في العام الجاري قياساً بعام 2012. وقد جرى إنقاذ 1396 شخصاً بين الأول من كانون الثاني يناير و16 أيلول سبتمبر، مقابل 1709 خلال الفترة نفسها من العام الماضي. ويجرب بعض المهاجرين نحو إسبانيا حظهم عبر عمليات اقتحام فاشلة لنقطتين من الحدود البرية بين القارة الأفريقية وأوروبا، في جيبي سبتة ومليلية. وكان أكثر من 330 ألفاً حاولوا دخول الاتحاد الأوروبي في العام 2012. وسجلت 70% من طلبات اللجوء في ألمانيا ( 77500 طلباً). وكانت حصة فرنسا 60600 طلباً، والسويد 44 ألفاً، وبريطانيا 28 ألفاً، وبلجيكا 28 ألفاً، بحسب مكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات). وقد عرّفت الأمم المتحدة "تهريب المهاجرين" على أنه تدبير الدخول غير المشروع لأحد الأشخاص إلى دولة، ليس ذلك الشخص من مواطنيها، أو من المقيمين الدائمين فيها. وذلك من أجل الحصول، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على منفعة مالية، أو منفعة مادية أخرى. ويُقصد بتعبير "الدخول غير المشروع"، عبور الحدود دون تقيّد بالشروط اللازمة للدخول المشروع إلى الدولة المستقبلة. وأوصى "بروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو، المكمِّل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية"، الذي بدا سريانه عام 2003، بعدد كبير من الإجراءات الواجب على الدول اعتمادها للقضاء على تجارة البشر، ومعالجة أسبابها المادية والثقافية. ويجب على الدول الأطراف في البروتوكول أن توفر أو تعزز التدريب المتخصص لموظفي الهجرة، وغيرهم من الموظفين ذوي الصلة، في مجال منع تهريب البشر، وفي المعاملة الإنسانية للمهاجرين الذين كانوا هدف عصابات التهريب، مع احترام حقوقهم كاملة. ويتعيّن على كل دولة طرف أن تتخذ التدابير المناسبة لكي توفر للمهاجرين حماية ملائمة من العنف الذي يمكن أن يسلط عليهم، سواء من جانب أفراد أو جماعات. وما يُمكن قوله خلاصة، في سياق هذا التفصيل، هو أن المجتمع الدولي معني بالتصدي المسؤول والحازم للأسباب والعوامل، التي تجعل من الأوطان طاردة لأبنائها، فالهجرة نحو المجهول ليست قدراً على أي إنسان.
مشاركة :