أغنية الطفل بين السطحية والعمق

  • 4/21/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

حينما يكون الحديث حول أغاني الطفل المرئية، فإنّنا نستحضر العناصر التي تكوّن هذه الأغاني، وهي: النص بما يحمله من عناصر فنية، واللحن بما يختزنه من طاقات تعبيرية وتخيلية، والصورة بما تفيض به من جمال وسحر وإخراج متقن، والصوت بما يتدفّق به من عذوبة وأداء منسجم. كل هذه العناصر وغيرها تتمازج في مادة اسمها (أغنية)، بهذا نعرف أن العمل مركّب وليس بسيطًا، مع أن الكثير من الدارسين لأدب الطفل يؤكدون على مسألة البساطة وعدم التعقيد في تناول هذه العناصر، بحيث يتمّ تقديم المادة الموجّهة للطفل في كلمات سهلة وقصيرة وقريبة جداً من معجم الطفل، وكذلك بالنسبة للحن والصورة والأداء، لا بد أن تقترب هي الأخرى من رهافة الطفل في تعرّفه على الأشياء الجميلة من حوله والإحساس بها، فيقدّم له العمل خفيفاً وبسيطاً، فهم يراعون قدرة الطفل على الاستيعاب والتلقي. لا شكّ أن البساطة مطلب مهمّ في أدب الطفل، والأسباب في ذلك وجيهة جداً، ولكن لنا أن نسأل: هل الأطفال على درجة واحدة من التلقي زماناً ومكاناً؟ وهل البساطة ملازمة للطفل؟ ألا يمكن للطفل مثلًا أن يستنتج أو يكتشف أو يربط أو يعلّل أو...؟ لماذا يتم التعامل مع الطفل، وكأنّه فاقد لأدوات الفهم التي تقترب من العمق قليلًا؟ وهل العمق للكبار وحدهم؟ أتصوّر أن قابلية الأطفال في التلقي متفاوتة، وأن لديهم درجات في الإدراك نسبية، فلا يمكن تسطيح ذهنية الطفل لدرجة السذاجة، فنرى بعض الأعمال الهابطة بحجة البساطة. وما نراه من بعض القنوات الفضائية العربية من تسطيح باهت لعالم الطفل، بحيث تقدّم زاداً غنائياً هو أشبه بالسكاكر والحلويات، حيث يكون هذا الزاد مغرياً جداً، فيبعث في الطفل حالة من المتعة والرقص، ولكن يضره مع الزمن، فيقيد حركة الجمال عنده في منطقة محددة، بل يتبلد إحساسه بالجمال، ويقتل لديه الخيال، ويتعرّض ذوقه للضمور، بسبب العبارات البسيطة حدّ السذاجة. لذا من المفترض أن يكون في مثل هذه القنوات المخصصة فريق متكامل يعمل تحت مظلّة المؤسسة، وليس تحت عشوائية الاجتهادات الشخصية، فنرى منها تلك الأعمال التي تبقى طويلًا في ذهن الطفل وقابلة للتجدّد معه في كلّ مراحله العمرية. الطفل بطبيعة الحال من الممكن أن يقبل شيئاً من العمق المتدرّج، ومن الممكن أن يهضمه بفضل التكرار، بحيث يفتح له أفقاً بسيطاً في كل مرّة، والمسألة تحتاج إلى دراسة وبحث لتقديم هذه التجربة للأطفال. هناك وفرة في النصوص التي تخدم هذه الفكرة، وما علينا إلا أن نشكّل فريقاً من المختصّين لاختيار النّص الذي يمزج العمق بالبساطة والمعرفة بالمتعة، فعلى سبيل المثال نجد اتحاد الكتاب العرب بسوريا أصدر العديد من المجموعات الشعرية الموجهة للأطفال، وهناك إصدارات جائزة الشارقة المتعلقة بأدب الطفل.. وغيرها من الجهات والمؤسسات الأخرى التي قدمت للطفل العربي، وأغنت المكتبة العربية بالنصوص الشعرية. أتساءل وأنا أقرأ في هذه الإصدارات بموضوعاتها المتنوعة، وبخاصة حينما أفاجأ بنصوص تحمل القيمة الجمالية والمعرفية للطفل بطريقة ميسرة، أتساءل بحرقة: لماذا لا أرى مثل هذه النصوص في تلك القنوات تُقدّم في عمل غنائي؟ ما الذي غيّب الأنظار عن مثل هذه النصوص؟ ولماذا يتم استهلاك النص السريع الذي لا يفعّل الخيال ولا يضيف لمعجم الطفل شيئاً؟ المسألة الأهم في الأغنية ليس أنها تراعي الأعمار وحسب، فتتدرّج بالموضوعات من أغنية إلى أخرى، فزمن الطفل، وأعني به: الظرف الذي يعيشه الطفل بما يحمله من متغيرات وتطورات على المستوى التقني والمعرفي وحتى الاقتصادي والسياسي، لا بد أن يُراعى أيضاً، فلا يصح أن تقدّم أغنية في وصف الرسالة الورقية مثلاً، لطفل يعيش تكنولوجيا التواصل الاجتماعي، ويتراسل مع أصدقائه بواسطتها. وكما للزمن أهميته في الأغنية، فللمكان أهمية أيضاً، فبيئة الريف تختلف عن بيئة السواحل، وبيئة المدن تختلف عن القرى.. وهكذا. وتبقى بعض الأغاني متغلبة على الزمان والمكان، وذلك حينما تمسك بأسرار الحياة، وباللحظات الجميلة تلك التي تدوم مع الإنسان. أتذكّر يوم كنّا صغاراً، وإلى الآن نحفظ مقدّمات بعض الأغاني الكرتونية، ونلمس اليومَ فيها عمقاً، فتتجدد الأغنية بتلك الكلمات التي نمت بفضل الحكمة المختبئة داخلها، والبساطة التي تلتقط بذكاء ما يدور في خلج الأطفال ثمّ ينمو معهم، كل مَن كان في جيلي لن ينسى هذه الأغنية: ما أحلى أن نعيشْ في خيرٍ وسلامْ ما أحلى أن نكونْ في حبٍّ ووئامْ لا شرَّ يؤذينا لا ظلمَ يؤذينا والدنيا تبقى.. تبقى.. أمانٌ (أمانًا) للجميعْ... ما أحلى أن نعيشْ في بيتٍ واحدْ ما أحلى أن نكونْ في وطنٍ واحدْ الحب للجميعْ والخير للجميعْ والدنيا تبقى.. تبقى.. أمانٌ (أمانًا) للجميعْ أرأيت كيف بقيت هذه الأغنية على بساطتها متعلقة في أذهاننا إلى هذا اليوم؟ أرأيت كيف تحركت متعة الطفل من السطح إلى العمق بمرور الزمن؟ بعكس بعض الأغاني التي قد تحفظها وأنت صغير، ولكن عندما تكبر وينمو لديك الإحساس، وتتأمل في كلماتها تشعر بالخواء. نعود إلى أغنية (ما أحلى أن نعيش)، ونسأل: ما الذي جعلها تعيش معنا إلى هذا اليوم؟ أعتقد أنها تناولت قيماً كبرى ولكن بكلمات سلسة وقصيرة، فهي تجمع بين عمق الموضوع وبساطة العبارة، فقيمة التعايش والخير والسلام والمحبة تلك التي تصنع الوطن الآمن، وتحميه من الشرور والظلم، كلها قيم يحتاجها الإنسان في كل زمان ومكان.

مشاركة :