إبداعات البوابة| أتيليه قصة قصيرة للقاص محمود يوسف

  • 8/23/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

والبحر الذى يبتلع رمال الشاطئ مخلفًا وراءه ذكريات الطفولة.. والأرض القاسية الصلبة التى أحالت قدوم أصدقاء الدرب.. والولد الذى طار فى فضاء الكون سعيًا على رزقه.. والأهل الذين ألهتهم الحياة عنه.. والعمر الذى تسرب من بين يديه.. والجدران التى كل ليلة تحدثه عن الأحباب.. والحياة التى أصبحت بالنسبة له ليس ما يعيشه وإنما ما يتذكره.كان هنا.. بل مازال هنا يجلس على كرسيه الخيرزان، يرى الدنيا على حوائط غرفته.. ولا أحد يراه.. داهمهم نسيانه فتركوه فريسة للحنين.. والحنين كما يقول شاعره المفضل هو استرجاع الفصل الأجمل من الحكاية.. وحكايته حكاية عمر.. بدأت حين فاض به الكيل.. وهو جالس على المقهى وسط الأصدقاء.. كان على غير عادته.. تبدلت ابتسامته بعبوس.. تبدلت حكاويه المرتجلة بسكوت مرير.. كانت ملامحه فى تلك الليلة غريبة.. كئيبة.. كانت الصحبة تراه.. وكأنهم لم يروه من قبل.. يرونه لأول مرة.. غريبًا عنهم.. غريبًا عن مجلسهم.. غريبًا عن دنياهم.. لا أحد يعرف ما به.. ولا أحد قد عرفه من قبل وهو على هذه الحالة.. ظنوا أنه شبح لرجل ألفوه من سنين.. جاء اليوم ليسقيهم مرار حنينه لأناس غضوا البصر عنه.. والحنين كما يقول شاعره ليس ذكرى بل هو ماتنتقى من متحف الذاكرة.. هو تكرار لأحداث وقد صفيت من الشوائب.. هكذا ولد الحنين بداخله هذه الليلة.. الحنين لكل حادثة مرت عليه سواء كانت حادثة جميلة أم جرح..المجلس كما هو المعهود عنه.. من أرباب المعاشات.. لا يمكن لشاب من مستوظفى هذه الأيام أن يقتحمه.. وإن اقتحمه عنوة.. أغلقوا فى وجهه أطراف الحديث.. حتى يمل ويمضى إلى حال سبيله. مواضيعه دائما ساخرة.. ساخرة من الحياة والموت.. ساخرة من الشباب والشيب.. ساخرة من كل شئ.. وعلى كل شيء.. ولا مجال لشيء يعكر صفوهم.كان هناك بينهم.. يدخن السجائر التى حذره منها الطبيب.. ولا يبالي.. يحكى كغيره عن ذكرياته.. ذكريات الطفولة والشباب..يضحك معهم.. ويضحك ويضحك.. حتى تبتل لحيته من الدموع.. يمسحها بطرف منديله.. وهو يستعيذ بالله.كان هناك تلك الليلة.. وكانت دموعه تنهمر.. لكن هذه المرة دون ضحكات.. وقد آثر السكوت.. وكانوا هناك هم أيضا.. يجلسون بجواره.. لم يسألوه عما به.. لم يحدثوه.. وإنما تركوه فريسة لما فى صدره من أنين.كان هناك تلك الليلة صامتًا.. مستسلمًا لما فى قلبه من حنين.. يخوض بعقله فى ذكريات.. ذكريات كان هو بطلها ذات يوم.. والآن أصبح يرويها على لسان صديقه الذى ليس له وجود.وكان الأصدقاء يضحكون.. ولا يدرون أنه هو.. هو أضحوكتهم.. هو الكائن المهمش.. البعيد عن مجلسهم.. هو الطير المحلق فوق ذكريات عفى عليها الزمن.. ولاتساع الوقت بعد أن بلغ سن التقاعد خرجت هذه الذكريات من فناء عقله لتحاكيه.. فيقصها عليهم ليضحكهم.كان يحكى لهم عن الصديق الذى أحب جارته.. وبادلته الحب بعدما علمت أنه لا يخفى شيئًا عن صديقه الأنتيم.. كان يحكى لهم عن الطالب الذى كان يخفى رقع بنطاله بحقيبته المدرسية.. كان يحكى لهم عن التلميذ البليد الذى دائمًا وأبدًا تجده مصلوبًا على سبورة الفصل متذنبًا.. كان يحكى لهم عن ذلك الرياضى الذى تمنى أن يكون بطلًا.. وأصبح دمية لأصدقائه يتدربون عليها.. كان يحكى لهم عن هذا الزوج الذى حين أتى لزوجته المخاضُ هزت قلبه بفراقها.. كان يحكى لهم عن بكائه فى المرحاض خشية أن يشعر به الوليد ويشاركه البكاء.. كان يحكى لهم عن الولد الذى أهمل أباه لأجل عيون أعجمية.. كان يحكى ويحكي.. وهم يضحكون ويضحك هو أيضًا على ضحكاتهم.. يضحك.. ويضحك إلى أن تبتل لحيته من الدموع.فى تلك الليلة أراد أن يصارحهم بحقيقة الأمر.. أراد أن يقول لهم أنه هو أضحوكتهم.. لكنه آثر السكوت.. لم تخرج من حلقه كلمة تفسر للجالسين حوله ما به.. لم تخرج منه غير صرخة مريرة حملت كل أوجاع دنياه فى قولة.. آه.صرخة وقعت على الأصدقاء كأثر النفخ فى السور.. صرخة موت لا حياة.. ملأت قلوبهم رعبًا.. فولوا منها فرارًا.. وتركوه فى ملهاته.هو الآن هنا يجلس على كرسيه الخيرزان يتأمل كل الوجوه التى عرفها.. كل يوم يتذكر وجهًا يحيى بداخله حبه القديم للرسم.. فيرسم ملامحه فى بورتريه.. ويعلقه على الحائط بعد أن يحدثه عن حاله.. كان كل ليلة على هذا الحال وكأنه نذر.. يرسم الوجوه؛ ليفضفض معها.. ومن ثم يعلقها على حوائط غرفته.. حتى اكتظت جدران الغرفة بكل الوجوه التى ألفها ولم تألفه.هو الآن هنا يجلس على كرسيه الخيرزان يتأمل كل الوجوه التى عرفها.. التى ألفها.. يمسح بنظره حوائط غرفته إلى أن سقطت عيناه على مكان خاوٍ فدق مسمارًا وعلق نفسه بجوارها؛ ليشعر بالألفة.

مشاركة :